-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
"الشروق" تدخل حصريّا قلعة القطب الاقتصادي والمالي بسيدي أمحمد

قضاة الجزائر.. هكذا فككوا إمبراطورية الفساد

نوارة باشوش
  • 4137
  • 0
قضاة الجزائر.. هكذا فككوا إمبراطورية الفساد
أرشيف

بصرامة وسلاسة.. احترافية وذكاء.. وفي مرحلة حساسة من مراحل تاريخ الجزائر المعاصر، تحملوا عبء المسؤولية وهم شباب يافعون وخاضوا معركة ضروسا ضد الفساد، فواجهوا كبار المسؤولين في الدولة وكبار “الأوليغارشية ” الفاسدين… لبوا نداء الجزائريين ودعموا حراكهم، ونجحوا في ترجمة الإرادة الشعبية بأحكام صدرت باسم الشعب الجزائري ضد هؤلاء اللصوص.. وكلهم يقين بأن دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة والقضاء لا يخضع لأحد.. إنهم بواسل القضاء… قضاة “القطب الاقتصادي والمالي” في الجزائر.
كل شيء انطلق في ذلك اليوم الموعود من شتاء 2019، حينما خرج الشعب الجزائري في انتفاضة عارمة غير مسبوقة كسر فيها الجزائريون كل التصورات النمطية التي تجعل خروجهم للشارع مرادفا للعنف، ليباغت النظام وينتهي حكم الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة بعد عقدين كاملين من الزمن.
يومها كسر الشعب الجزائري حاجز الصمت ونصّب محاكم شعبية لرموز الفساد في هذه المسيرات المليونية وعبّر عن منسوب كبير جدا من السخط على السلطة الحاكمة، بسبب تفشي الفساد في مختلف دواليب القطاع الحكومي والقطاع الخاص، وما نتج عن ذلك من ضياع مقدرات البلاد، وبالتالي تردي أوضاع الشعب.. ومن هنا تفجرت فضائح الفساد مدوية وانطلقت عملية محاسبة الفاسدين.
الحراك الشعبي كان متواصلا كل جمعة وثلاثاء… ملفات فساد ثقيلة تتهاطل على القضاء… توافد غير مسبوق للوزراء وكبار المسؤولين وأغنى رجال الأعمال على قضاة التحقيق بمبنى محكمة سيدي أمحمد، إيداعات بالجملة رهن الحبس المؤقت بسجن الحراش شملت رؤساء الحكومة وثلة من الوزراء والولاة، إلى جانب رؤساء أحزاب عن الموالاة، ولفيفا من رجال المال والجاه والمحاباة، من دواليب فترة حكم الرئيس بوتفليقة، الذين عاثوا في الفساد طولا وعرضا وضربوا قوانين الجمهورية عرض الحائط ونهبوا قروض المشاريع الوهمية من خزينة الشعب.
ولا ننسى شخصيات عامة من المقربين، ومسؤولي المؤسسات العمومية والاقتصادية الكبرى، التي أساءت استغلال وظيفتها ومنحت امتيازات من دون وجه حق وأبرمت صفقات مشبوهة ومخالفة للقانون طيلة العقدين الفارطين، لندرك خلال المحاكمات المتتالية والوقائع الخطيرة والأرقام المهولة للملايير الضائعة، حجم المؤامرة التي حيكت ضد الشعب.

القاعة رقم 5.. سجّل يا تاريخ


كنا نتردد على محكمة سيدي أمحمد، منذ انطلاق محاكمات الفساد ورموز العصابة، أين تابعنا جميع الجلسات بأيامها ولياليها وتفاصيلها وحيثياتها، منذ أول محاكمة لرموز النظام السابق في شهر ديسمبر من سنة 2019، والمتعلقة بملف “تركيب السيارات ونفخ العجلات” والتي توبع فيها الوزير الأول أحمد أويحيى وسلفه عبد المالك سلال وعدد من الوزراء تحت صيحات حشود من المواطنين الذين حاصروا مبنى محكمة سيدي أمحمد مردّدين شعارات “كليتوا لبلاد يا السراقين”، وآخرون حاولوا اقتحام قاعة الجلسات حتى يتمكنوا من رؤية رجال “الصف الأول” صاغرين أمام العدالة.
مشاهد لم يعهدها الجزائريون.. هنا يظهر قضاة شباب وأكفاء يحملون على عاتقهم مهمة ثقيلة.. مستعدون للتضحية من أجل مساندة شعبهم وإثبات دعمهم لحراكهم الذي يطالب بمحاسبة المفسدين وحماية الحريات ورفع المظالم… استطاعوا تحمل عبء هذه المرحلة الحساسة من تاريخ الجزائر المعاصرة، فنجحوا في ترجمة الإرادة الشعبية إلى أحكام نطقت وما تزال تنطق باسم الشعب الجزائري.
محاكمات فساد تاريخية سجلتها القاعة رقم “5” بمحكمة سيدي أمحمد، بإشراف قضاة تحقيق محنكين، تطرقوا لكل شاردة وواردة في الملفات المطروحة أمامهم، فلم يعرفوا النوم ولا الراحة إلا قليلا..، فيما سيّر المحاكمات قضاة شباب أيضا، كانوا في فم المدفع وتحمّلوا عبء المسؤولية الملقاة على عاتقهم في مرحلة حساسة جدا من تاريخ الجزائر، على شاكلة القاضي كمال محمد بن بوضياف الذي شغل وقتها منصب رئيس القطب الجزائي المتخصص بمحكمة سيدي أمحمد، حيث فصل في ملفات فساد كبرى معقدة وشائكة، على غرار قضايا الرئيس السابق لمنتدى رجال الأعمال “الأفسيو”، الذي مثّل رقما صعبا في “الكارتل المالي” و”الوجه القبيح” للاستثمار الخاص والمقربين النافذين لدى شقيق الرئيس بوتفليقة.


وبتّ القاضي بن بوضياف أيضا في ملف محي الدين طحكوت المعروف بنفوذه في دواليب السلطة، كما واجه مسؤولين في أعلى هرم الدولة من فئة الوزراء على غرار جمال ولد عباس المتورط في فضيحة “التلاعب بأموال الزوالية”، إذ سير القاضي الجلسات بطريقة محترفة وذكية وبكل بهدوء. وللمرأة القاضية نصيب أيضا في تلك الفترة من محاكمات الفساد، ممثلة في نموذج وسيلة زويش التي فصلت في ملفات فساد ثقيلة، تورط فيها كبار المسؤولين وضباط سامون ورجال أعمال، مثل المدير العام السابق للأمن الوطني اللواء عبد الغاني هامل والملياردير يسعد ربراب والإخوة كونيناف وصاحب مجمع “سوفاك” مراد عولمي.
وجرى كل ذلك تحت إشراف مباشر لرئيسة مجلس قضاء الجزائر حاليا التي كانت رئيسة محكمة سيدي أمحمد أنذاك القاضية دنيا زاد قلاتي، التي تحملت عبء مسؤولية “فترة حساسة” كانت تتابع خلالها كل صغيرة وكبيرة بخصوص قضايا الفساد الواردة على محكمة سيدي أمحمد، وتسهر على السير الحسن لمجريات المحاكمة.
وعلمنا لاحقا أنها لا تغادر مكتبها إلا بعد ساعات متأخرة من الليل وفي بعض الأحيان تقضي ليلها إلى غاية بزوغ أولى خيوط الفجر في مبنى محكمة سيدي أمحمد.
ومع مواصلة التحقيقات في ملفات الفساد، في ظل عدم وجود جهة قضائية مختصة في معالجة القضايا الاقتصادية المتشعبة، التي أصبحت عبءا على المحاكم العادية، نظرا لكثرتها من جهة ولخصوصيتها وتعقيداتها من جهة أخرى من حيث أطرافها ومحل وقائعها الوطني والأجنبي وكذا طابعها الفني والمحاسبي، إلى جانب متابعة أشخاص من فئة رؤساء الحكومات والوزراء وولاة الجمهورية الذين يتمتعون بـ”امتياز التقاضي” وفقا للمادة 573 من قانون الإجراءات الجزائية الأمر 66 ـ 155 المؤرخ في 8 جوان 1966، مما يجعل التحقيق في هذه الملفات بناء على طلبين افتتاحيين، أي أن الملف الواحد تم تقسيمه إلى جزأين، القسم الأول يشمل إطارات سامية في الدولة من مسؤولين كبار ووزراء وولاة الجمهورية وغيرهم ممن شملهم “امتياز التقاضي” ويحقق فيه المستشار المحقق لدى المحكمة العليا، أما الجزء الثاني من الملف يشمل الأشخاص العاديين يحقق فيه قاضي التحقيق لدى محكمة سيدي أمحمد.
وهنا ظهر مشكل “ضم الملفات” قبل الإحالة على المحاكمة، وعلى هذا الأساس ولتوحيد الطلب الافتتاحي والتحقيق في ملفات الفساد والقضاء بشكل نهائي على إجراء “امتياز التقاضي” ووضع جميع المتقاضين على قدم المساواة تم استحداث القطب الجزائي الاقتصادي والمالي ذات اختصاص وطني.

الذراع الفولاذية لضرب الفساد
وفي خضم الأوضاع والتطورات التي سادت البلاد وبموازاة الإرادة السياسية التي كانت السبب المباشر في فتح ملفات الفساد والزج برؤوس كبيرة وكثيرة في السجون، وبأوامر من رئيس الجمهورية، القاضي الأول في البلاد، عبد المجيد تبون، تبرز محكمة القطب الوطني الجزائي المختص في مكافحة الجريمة الاقتصادية والمالية، كذراع فولاذية لتجسيد إرادة الدولة وقوتها الحاسمة في الضرب على أيدي الفاسدين والمفسدين.
هذا القطب الذي يرجع إليه الفضل منذ استحداثه عام 2021، في حسم عشرات الفضائح والملفات الشائكة التي طالت كبار المسؤولين في الدولة، مثل رؤساء حكومات الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، في صورة كل من أحمد أويحيى وعبد المالك سلال ونور الدين بدوي، والعشرات من الوزراء ومسؤولين كبار بمستوى ولاة وإطارات سامية في الإدارة والمؤسسات الاقتصادية العمومية والخاصة، وقبلهم السعيد بوتفليقة، أو “ظل الرئيس” الذي قادته أهواءه إلى السجن.
تابعنا شخصيا جميع قضايا الفساد التي فصل فيها القطب الاقتصادي والمالي، والتي كانت القاعة رقم “5” مسرحا لها، وكنا شاهد عيان على كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة للمحاكمات الثقيلة والطويلة التي وصل بعضها إلى أزيد من 15 يوما كاملا، وتجاوز بعضها الآخر عقارب منتصف الليل، بل هناك محاكمات استمرت إلى طلوع الفجر.
إرهاق وتعب وضغط كبير لنيابة الجمهورية وقضاة التحقيق وقضاة الحكم وأمناء الضبط بالقطب الاقتصادي والمالي.. ملفات ثقيلة… عدد المتهمين تجاوز في العديد من القضايا 105 متهم… التحقيقات تتواصل والمحاكمات تتوالى دون انقطاع.. واحدة تلوى الأخرى.. لا نكاد ننتهي من قضية إلا وتتم إحالة أخرى.. إنه استنزاف كبير حقّا.
لكن قاطرة العدالة ظلت تسير بثبات، يقودها ربان القطب، تحت إشراف مباشر لرئيسها القاضي كمال محمد بن بوضياف، ووكيل الجمهورية الرئيسي عبد الرحيم رقاد أنذاك، اللذان خاضا حربا ضروسا ضد الفساد، وتمكنا من استرجاع جزء كبير من الأموال المنهوبة سواء في الداخل أو الخارج، رفقة وكلاء الجمهورية المساعدين مهدي أحمد ناصر، بلقاسم صافية، نصر الدين بن عبد الله، مصطفى جلولي، وقضاة الحكم إبراهيم بوقنجقجي، حمزة بوقايس، بلالطة، كل واحد في فرعه، حيث سايروا الجلسات بامتياز وحكمة كبير وصبر طويل، مع أن القضايا المطروحة أمامهم صعبة ومعقدة، دون أن ننسى قضاة تحقيق الغرف الثماني، الذين حققوا في ملفات فساد لأيام عديدة وساعات متأخرة من الليل.
كل هؤلاء وقفوا على قدم وساق للفصل في الملفات وتنفيذ قرارات حجز الممتلكات الظاهرة والخفية للمتابعين في الفساد مع السهر على إحصائها وجردها، في خطوة استباقية لمواجهة التحايل على القضاء في استرجاع الأموال المنهوبة، والسهر على تنفيذ أوامر الرئيس تبون المتعلقة بتوجيه الإنابات القضائية الدولية لحصر ممتلكات وعقارات وأرصدة المتورطين في الفساد ومن ثم استرجاعها وما يزالون يواصلون المعركة ضد الفساد إلى يومنا هذا.
نعم، لقد تم كل ذلك بفضل هؤلاء القضاة المتخصصين والمتكونين، يتمتعون بالكفاءة والاحترافية ومعروفين بالنزاهة والأخلاق في الوسط القضائي، ما جعلهم متميزين في تسيير الإجراءات والتحقيقات والتحكم الجيد في جلسات المحاكمات، وبذلك نجحوا في إعطاء نفس جديد للقضاء الجزائري.

200 إنابة قضائية.. ومعركة استرجاع الأموال المنهوبة متواصلة


“الشروق” تدخل حصريا القطب الاقتصادي والمالي، هذا الصرح الذي مرّ عبر أروقته وغرفه مسؤولون كبار في الدولة من فئة السعيد بوتفلقية، أويحيى وسلال وبدوي وعدد كبير من أعضاء حكومات بوتفليقة وضباط سامون على شاكلة اللواء عبد الغاني هامل، إلى جانب ولاة جمهورية، وكبار “الأوليغارشية” من رجال الأعمال والمال.
الساعة كانت تشير إلى العاشرة صباحا من يوم 5 مارس الجاري، عندما وصلنا إلى مقر محكمة سيدي أمحمد، حيث يتواجد القطب الاقتصادي والمالي… القوة الضاربة للفساد والمفسدين، ونحن في رواق الانتظار عاينّا هذه التفاصيل.
لهم طريقة سير مميزة، خطواتهم ثابتة، لا يبتسمون إلا نادرا، ويرمقونك بنظرات ثاقبة، وهي النظرات التي لمحناها ونحن نعد هذا الروبورتاج… فهم يتميزون بالانضباط والسرية وواجب التحفظ من أجل تطبيق القانون بحذافيره، فلا مجال للخطأ والتقاعس، لأن أي خطأ في بند من قانون الإجراءات الجزائية، خاصة في قضايا فساد ثقيلة من حيث طبيعة الوقائع والأشخاص، يؤدي إلى نتائج وخيمة على القرارات والأحكام التي تصدر باسم الشعب الجزائري…إنهم قضاة القطب الجزائي الاقتصادي والمالي الذين عاشوا فترة ضغط كبير وجهود مضنية بذلوها في معالجة ملفات ثقيلة وحساسة.
تم استقبالنا من طرف وكيل الجمهورية الرئيسي للقطب الاقتصادي والمالي، محمد كمال بن بوضياف، الذي كان رئيسا لهذا الأخير بعد شهر واحد فقط من استحداثه عام 2021.
بن بوضياف شغل، منذ انتسابه إلى سلك القضاء، عدة وظائف في جهاز العدالة، آخرها رئيس القطب الجزائي الاقتصادي والمالي لمدة 3 سنوات أي منذ 16 ديسمبر 2020، وقبلها كان رئيسا للقطب الجزائي المتخصص بمحكمة سيدي أمحمد، وشغل نفس المنصب بمحكمة ورقلة، كما تولى رئاسة محكمة الجنايات بورقلة، إلى جانب تعيينه كقاضي تحقيق لعدة سنوات.
كنا نحضر المحاكمات المتتالية التي يترأسها بن بوضياف وهو الذي أخذ حصة الأسد في معالجة ملفات الفساد التي تفجّرت منذ سنة 2019، وقد أظهر تحكما كبيرا في تسيير الجلسات لساعات طويلة جدا وأدارها بصبر ونفس طويل من خلال إعطاء الفرصة للمتهمين ومحاميهم للدفاع عن أنفسهم بكل أريحية، وهذا بشهادة المحامين والمتهمين، مما جعله قاض بامتياز، وهو ما أدركناه أكثر خلال حديثنا معه، إذ تبين أنه يحوز مهارات متعدّدة ناتجة عن التكوين المتخصص والمستمر الذي ثابر على متابعته طوال مشواره المهني.
وفي رده عن سؤالنا المتعلق بتسيير جلسات محاكمات الفساد، باعتباره أول قاضي فصل في ملفات ثقيلة جدا وسابقة في تاريخ القضاء الجزائري، قال القاضي بن بوضياف: “إن تلك المهمة صعبة للغاية، تتطلب جهدا وتركيزا كبيرين، ناهيك عن التحضير الجيّد للملفات، وكذا الدقة في طرح الأسئلة والتمتع بذكاء خلال استجواب المتهمين.. والحمد لله وبفضله، تمكنا من التحكم في الأمور إلى حد ما”.
وبخصوص عمل نيابة جمهورية القطب، أوضح الوكيل بن بوضياف أن “وكلاء الجمهورية وقضاة التحقيق التابعين للقطب الجزائي المتخصص هم متخصصون في مجال مكافحة الجرائم ذات الطابع الاقتصادي والمالي والفني، وقد منح التعديل الجديد لوكيل جمهورية القطب صلاحية طلب أي ملف على مستوى أي محكمة أخرى، حيث سيتحتم على قضاة التحقيق التخلي عن الملف تلقائيا لصالح محكمة القطب، التي ستعالج ملفات الفساد ذات الأهمية وذات النوعية والخطورة الاقتصادية والمالية”.
أما فيما يتعلق بعدد الإنابات القضائية المتعلقة بالذمة المالية للمتهمين المتابعين في ملفات الفساد، قال بن بوضياف: “سمحت الإنابات القضائية المنفذة بالتعاون مع الخارج باسترجاع عقارات وفنادق وممتلكات ناجمة عن أموال مهربة، في عدد من الدول، من بينها لبنان وإسبانيا وفرنسا والإمارات، كانت ملكا لرجال أعمال ملاحقين في قضايا فساد، فيما تجري حاليا معالجة أزيد من 200 إنابة من قبل السلطات القضائية الأجنبية المعنية، لاسترجاع أموال مكافحة الفساد، لكن لعلمكم، فإن مسألة الاسترداد تأخذ وقتا، وهذا راجع لاختلاف القوانين بين الدول”.

الكل سواسية أمام القانون
بعد أن أنهينا حديثنا مع وكيل الجمهورية الرئيسي للقطب، محمد كمال بن بوضياف، رافقنا هذا الأخير إلى الطابق الخامس، حيث يتواجد القطب الاقتصادي والمالي، أين استقبلنا رئيسه هشام نعيمي، الذي كان يشغل منصب قاضي التحقيق في قسم مكافحة الإرهاب ثم عند استحداث القطب الاقتصادي والمالي، تم تحويله إلى الغرفة الأولى للقطب، خلفا لوكيل الجمهورية السابق عبد الرحيم رقاد، هذا الأخير الذي حقق في ملفات ثقيلة ومعقدة وشائكة هو أيضا.
الرئيس نعيمي، وخلال حديثنا معه، تبين أنه ملم ويتمتع بكفاءة عالية، كونه حقق في العديد من قضايا الفساد الكبرى، إذ خاض في خلفيات استحداث القطب، قائلا: “يعتبر القطب الجزائي الاقتصادي والمالي آلية جديدة استحدثها المشرّع بموجب القانون رقم 20-04 المعدّل لقانون الإجراءات الجزائية، وذلك لمكافحة ومعالجة القضايا التي تتمتع بالطابع الاقتصادي والمالي”.
وتابع الرئيس: “باعتبار أن القطب ذو اختصاص وطني، فإنه يمكن لوكيل الجمهورية، بعد أخذ رأي النائب العام لدى مجلس قضاء الجزائر، أن يطالب بملف الإجراءات، إذا اعتبر أن الجريمة تدخل ضمن اختصاصه”.
وفي تفاصيل أخرى، كشف القاضي نعيمي أن القطب يتضمن 8 غرف للتحقيق، والملفات توزع على قضاة التحقيق، مشدّدا على أن بعض القضايا تستغرق فيها مدة التحقيق عدة أشهر، نظرا لكونها معقدها وتتطلب إجراءات قانونية كثيرة، ومع هذا، يقول المتحدث: “نحن نعمل من أجل السير الحسن للتحقيقات والمحاكمات والحفاظ على حقوق المتقاضين طبقا لما يتضمنه القانون والدستور، فالمحاكمات هنا تسير وفقا لمبدأ الكل سواسية أمام القانون، علما أن عملية محاربة الفساد متواصلة، مع استرجاع الحقوق ووضع حد لحالات الاعتداء على الحريات ونهب الثروات”، معتبرا إياها مهمة ثقيلة وقد أوكلها الشعب الجزائري لسلك القضاء.

التحقيق.. عالم مثير وما خفي أعظم
دخلنا لأول مرة غرف التحقيق للقطب الاقتصادي والمالي، وهي بمثابة “العلب السرية” لمئات ملفات الفساد المفصول فيها وأخرى ما تزال قيد التحقيق.. هنا كل شيء ينجز “التحقيق مع المتهمين.. الأدلة والقرائن.. الخبرة القضائية…تقرير المفتشية العامة للمالية… المواجهة.. الشهود.. الأطراف المدنية.. الدفاع… وصولا إلى الأمر بالإحالة”.
دخلنا إذن رفقة رئيس القطب هشام نعيمي على قاضي تحقيق الغرفة الثانية، خالد بن يونس، المعروف لدى العام والخاص بكفاءته في التحقيق عبر أكبر ملفات الفساد على مستوى القطب، على غرار ملف الوزير الأول عبد المالك سلال ورجل الأعمال عبد المالك صحراوي، وكذا وزير السكن السابق عبد الوحيد طمار وغيرها من القضايا.. وجدناه منهمكا في عمله ومكتبه غارق بين الملفات، علامات التعب والإرهاق بادية على وجهه.

وجهتنا الثانية كانت الغرفة الثالثة، حيث تم استقبالنا من طرف قاضي التحقيق مويسي عبد المومن، المعروف أيضا في الوسط القضائي بجدارته في معالجة ملفات فساد كبرى معقدة وشائكة منذ استحداث القطب عام 2021، كيف لا وهو من واجه العلبة السوداء ضمن القوى غير الدستورية بقصر المرادية “السعيد بوتفليقة”، وهو من أمر بإيداعه الحبس المؤقت مباشرة بعد تبرئته من المحكمة العسكرية عن تهم التآمر.


إلا أن القاضي مويسي حين طرحنا عليه سؤالا بخصوص ظروف مواجهة “السعيد بوتفلقية”، ردّ قائلا: “لم يمثل أمامي شقيق ومستشار الرئيس السابق.. بل حضر بصفته متهما عاديا… أمامي وقائع واتهامات تعاملت معه وفق قاعدة الكل سواسية أمام القانون”.
وفصّل قاضي التحقيق مويسي في إجراءات المتابعة، وفقا لقانون الإجراءات الجزائية، انطلاقا من الطلب الافتتاحي، مرورا بالتحقيق والاستماع إلى المتهمين إلى الخبرة القضائية، مرورا بالمواجهة والشهود والأطراف المدنية، إلى الأمر بالإحالة، مؤكدا: “الأمر ليس بالهين، فهو يتطلب جهدا كبيرا وتركيزا دقيقا.. وحدّث ولا حرج عن التحري في كل شاردة وواردة، حفاظا على حقوق جميع المتقاضين وفقا لما يمليه الدستور والقانون وحقوق الإنسان”.
بالمقابل، تطرق القاضي مويسي إلى أهمية التحقيق المالي الموازي في قضايا الفساد، موضحا أن “التحقيق المالي الموازي، الذي جاء في المادة 2 من القانون 23 ـ 01 المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحته، يسمح بالكشف عن مسار الأموال المبيضة”.

العلامة الكاملة للقطب
ونحن كشاهد عيان لمدة 4 سنوات كاملة، ورغم المحاكمات المتتالية التي تجاوزت المئات، وهي ذات نوعية خاصة ومعقدة مقارنة بالقضايا التي شهدها القضاء الجزائري من قبل، إلا أن كل جلسات محكمة القطب الجزائي الاقتصادي والمالي مرّت بردا وسلاما بدون تسجيل أي خطأ أو تجاوزات أو خروقات من القضاة، بشهادة المحامين الذين أبانوا هم كذلك عن السير الحسن خلال توليهم مهمة الدفاع عن موكليهم.
القاصي والداني لاحظ مدى تمتع القطب بالاحترافية والمهنية في أداء مهامه، بفضل التحكم الجيّد والإستراتيجية الذكية المنتهجة من طرف قضاته الذين وقفنا ميدانيا على حالات منهم يغادرون مبنى المحكمة بحقائبهم المملوءة بالملفات لدراستها وتحرير الأحكام والقرارات بمساكنهم، على حساب حياتهم الشخصية والعائلية، كونهم رجال قانون ومسؤولياتهم ثقيلة، وليسوا عمالا في شركة منتوجات استهلاكية… لذلك يستحق أمثال هؤلاء الإشادة والعلامة الكاملة، فقد زادوا من هيبة الدولة واحترامها، محافظين على هيبة القضاء أداء للواجب وتلبية لنداء الوطن.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!