الرأي

قلعة بني حمّاد الجزائرية.. تاريخ دولة وحكاية مدينة

بقلم: الدكتور أمين كرطالي
  • 10786
  • 0

في الوقت الذي كانت فيه فرنسا عاجزةً عن تأسيس دولة تجمع كيانها إبّان عهد أسرة كاپي (Les capétiens ( بسبب تنامي سلطات الإقطاعيّين ورجال الكنيسة، وبينما كان المغرب الأقصى غارقا في الفوضى وأضحى يئن تحت وطأة الجهل والخرافة ويعيش حالة مزرية من التشرذم السياسي، وانتشرت في ربوعه كثيرٌ من التيارات والجماعات المنحرفة والغارقة في الجهل والوثنية والخرافة على غرار قبيلة برغواطة، كانت الأمّة الجزائريّة تعيشُ في كنف دولةِ بني حمّاد وتتوشّح بثوب العظمة والقّوة والبهاء.

ويرجع الفضل في ظهور هذه الدّولة إلى قبيلةٍ من قبائل صنهاجة الجزائرية؛ تلك القبيلة التي قال عنها ابن خلدون: (من أوفر قبائل البربر.. حتى زعم كثيرٌ من الناس أنهم الثلث من أمم البربر).
كانت هذه القبيلة كثيرةَ الفروع، وفي رحمها ترعرع بطنُ بلكانة أو ملكانة الذي امتدّت مضاربُه بين المغرب الأوسط وإفريقية، وعلى سواعده تشكّلت ثلاثُ دول كان لها حضورٌ حافل وتأثير قوي في تاريخ شمال إفريقيا والأندلس، وذلك من خلال دولة بني زيري في إفريقية (تونس) ودولة بني حمّاد في المغرب الأوسط (الجزائر) ثمّ دولة بني حبوس بن ماكسن بإلبيرة (غرناطة).

لقد أمدّنا عبد الرحمن بن خلدون بمعلومات وافية عن تاريخ صنهاجة، وبالأخصّ بطن بني ملكان أو تلكانة فذكر أنّهم: (بنو ملكان بن كرت وكانت مواطنهم بالمسيلة إلى حمزة إلى الجزائر والمدية ومليانة… وبعض أعقاب ملكانة ببجاية… وكان زعيمُهم مناد بن منقوش بن صنهاج). وكانت صنهاجة تمتلك بعض صفات العرب، وهو ما دفع بعض نسّابتها وشيوخها إلى ادّعاء الأصول الحُمَيْرية، ما يُؤكّد حبّ هذه القبيلة للعرب.

وواضحٌ أنّ بني ملكان الصّنهاجيين كانوا يتميّزون عن بقيّة الفروع بالنّباهة والدّهاء السياسي، والحنكة والشجاعة العسكرية، وهو الأمر الذي أهّلهم لتجاوز مرحلتي “القبيلة والبداوة” والانتقال إلى مرحلتي “الدّولة والتمدّن”.

ويرجع سبب تسمية الدوّلة الحمادية بهذا الاسم إلى مؤسّسها حمّاد بن بلكين (بلقين) بن زيري بن منّاد الذي أعلن استقلاله بالمغرب الأوسط عن الدّولة الزيريّة بداية من سنة 405هـ ليدخل في صراع ضدّ أخيه المنصور -باديس بن بلكين- ثمّ ابنه المعز بن باديس.

لكنّ المعزَّ بن باديس سُرعان ما استسلم للأمر الواقع واعترف باستقلال عمّه حماد بالمغرب الأوسط عن الدّولة الزيريّة التي انحصر نفوذُها في إقليم افريقية وذلك سنة 408هـ.
كان حمّاد قائدا محنّكا، وزعيما مُجرِّبا، سعى إلى تقوية دولته وتطويرها وتوسيع رقعتها الجغرافية التي امتدّت في بعض الفترات لتضمّ عددا من أقاليم المغرب الأقصى وتونس.
وفي أيام بلكين بن محمد كان المغرب الأقصى عبارة عن مجموعة من الإمارات المتناحرة التي يُشرف عليها زعماءُ القبائل من مغراوة وبني يفرن وبرغواطة والمصامدة وغيرها، وتمكّن بلكين بن محمّد أثناء قتاله للأمير الزناتي الفتوح بن دوناس من دخول فاس، تلك المدينة التي عرفت اضطرابا قبيل دخول المرابطين الذين هم بدورهم ينحدرون من صنهاجة الجنوب القادمين من موريتانيا.

أمّا في عهد الناصر بن علناس فقد استولى الحمّاديون على تونس وصفاقس وقسطيلة وانتزعوا هذه المدن من تميم بن المُعزّ الزيري، وهو ما تسبّب في نشوب موقعة سبيبة سنة 457هـ- 1065م التي تحالف فيها تميم مع القبائل الهلالية، فكانت هزيمة شديدة تعرَّض لها الحماديون.
أبدى الحمّاديون اهتماما بالغا بتطوير دولتهم وتعميرها، وكانت مدينة القلعة واحدة من المدن التي بناها حماد، و اختُلف في تاريخ تأسيسها لكنّنا نميلُ إلى أنّ تأسيسها الحقيقي كان سنة (398هـ/1007م).

وتقع القلعة على بُعد 20 كم شمال مدينة المسيلة في مرتفعات جبال المعاضيد، وتعود بداياتُ ظهورها إلى أيّام المنصور بن بلكين، لكنّها خلال تلك الفترة كانت مجرّد قلعة حصينة، ثمّ قام حمّاد باستغلال حصانتها لأجل التمرُّد على أخيه باديس الذي تولّى سنة (386هـ/996م)، ولمّا استقلّ حماد بالمغرب الأوسط بدأ في تحويل القلعة إلى مدينة عظيمة واجتهد في تعميرها بين عامي (398هـ/ 399هـ/ 1007 و1008م) .

وتحدَّث ابن خلدون في تاريخه عن مراحل تطوُّر المدينة، فذكر أن حمّادًا أتم بناءها وتمصيرها على رأس المائة الرابعة، وشيّد بناياتها وأسوارَها، واستكثر فيها من المساجد والفنادق، وأن الناصر بن علنّاس بنى المباني العجيبة المؤنقة، وأن المنصور بنى فيها قصر الملك والمنار الكوكب وقصر السلام.

ويضيفُ ابن خلدون قائلا: (اختطّ حماد مدينة القلعة سنة ثمان وتسعين بجبل كتامة وهو جبل عجيسة… ونقل إليها من أهل المسيلة وأهل حمزة ونقل جراوة من المغرب وأنزلهم بها).
وشيئا فشيئا غدت مدينة القلعة واحدة من أحصن المدن حتّى أنّ المؤرّخ ابن الأثير وصفها بقوله: (من أحصن القلاع وأعلاها، لا ترام على رأس جبل شاهق، يكاد الطرف لا يحققها لعلوِّها). ولقد تنوّعت فيها المباني والمنشآت، وصارت واحدة من أعاجيب الدّهر، وأشاد صاحب كتاب “الاستبصار” بما وُجد فيها من مبان عظيمة، وقصور منيعة متقنة البناء عالية السّناء.

وصارت هذه المدينة المُتقنة تعيشُ حالةَ رخاء واستقرار من حيث الأمن الغذائي، فأهلها كما يقول عنهم الإدريسي: (أبد الدهر شباع، وذلك لغناها بالحبوب).

وقد استفادت مدينة القلعة كثيرا من خراب القيروان الناجم عن الغزو الهلالي، إذ سرعان ما انتقل إليها أكثرُ أهل إفريقية، وأصبحت مقصد التجّار وبها تحلّ الرّجال من العراق والحجاز ومصر والشام وسائر بلاد المغرب.

إنّ جمال هذه المدينة وروعتها وحصانتها دفعت الشاعر”ابن هاني الأندلسي” إلى القول: (قلعة بني حمّاد جنة الله في أرضه). وفضلا عمّا اتّصفت به المدينة من جمال وحسن تدبير، فإنّها كانت ترفلُ في النّعيم ويعمّ فيها الرّخاء، لتشهد حركة علمية ونهضة فكرية وانتشرت في أرجائها الحِلق العلمية ونبغ فيها كثيرٌ من العلماء وطلبة العلم، ويصف ابن خلدون ذلك بقوله: (استبحرت في العمارة، واتّسعت بالتمدُّن، ورحل إليها من الثغور القاصية والبلد البعيد طلابُ العلوم، وأرباب الصنائع؛ لنَفاق أسواق المعارف والحِرف والصنائع بها).

وكغيرها من المدن الإسلامية، فقد عاشت قلعة بني حمّاد مراحلَ صعبة، لكنّها بالرغم من ذلك صمدت متحديّة صروف الدّهر وحوادث الزّمان، وتعاقُب المحن وتوالي النكّبات إلى غاية سنة 454هـ/ 1062م، عندما بدأ خامس ملوك بني حمّاد وهو الناصر بن علناس (454- 481هـ/1062- 1088م) ببناء بجاية التي أصبحت فيما بعد عاصمة الحمّاديين.

وكان سبب بناء مدينة بجاية هو ما آل إليه وضعُ دولة بني حمّاد عقب هزيمة جيوشها أمام القبائل الهلالية، ومنذ ذلك الحين بدأت العرب من بطون بني هلال تتربّص بأطراف القلعة وجنباتها فبادر الناصر بن علناس -بعد نصيحة ابن البعبع عامل تميم- إلى بناء مدينة جديدة هي مدينة بجاية.

وعلى إثر بناء بجاية تقهقرت القلعة وغادرها غالبية السكّان، وانتقلوا إلى المدينة الجديدة، قبل أن ينتقل إليها المنصور بن الناصر بن علناس سنة 481-1088م.

لكنّ القلعة بقيت تحظى ببعض العمارة إلى أن بادر يحيى بن العزيز وهو آخر ملوك بني حماد بإخلاء المدينة، فاستقرّت بها بعضُ القبائل الهلالية، واستمرّت هذه المدينة تتحدّى الظروف المتعاقبة إلى غاية القرن الثالث عشر بعد أن تمّ حرق المدينة وتحطيمها إبّان حروب ابن غانية ضدّ الموحدين. ولم يتبقّ منها إلا أطلالٌ شاهدة على تاريخ حافل بالأمجاد والعظمة.

وقد اتسمت مدينة القلعة بطابعها المعماري الفريد المأخوذ عن الطراز الفاطمي، وبعض التأثيرات النورمندية والأندلسية والمشرقية. وأبدع الحمّاديون في ابتكار أساليب جديدة في العمارة والزخرفة بما توفر لديهم من مواهب وطاقات بشرية ورخاء فكري ورقيٍّ حضاري، وسرعان ما تأثّرت مدنُ صقلية وإسبانيا بالطّراز المعماري الذي شهدته القلعة، وهي التأثيرات التي كان لها حضورٌ بارزٌ في العمارة الغرناطية خصوصا في قصر الحمراء.

وهكذا كانت الدّولة الحمادية وحاضرتُها دليلا صارخا على عراقة الدّولة في الجزائر، ورسوخ الأمّة الجزائرية وسُموِّ حضارتها ونبوغ ساكنتها، وذلك حين كانت تعيشُ بعض الدول المتطاولة على تاريخ الجزائر عصور ما قبل التاريخ.

مقالات ذات صلة