-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كيف نجعل ملتقياتنا العلمية رافدا للتنمية؟

كيف نجعل ملتقياتنا العلمية رافدا للتنمية؟

عندما كنتُ نائبا لمدير الجامعة مكلفا بالعلاقات الخارجية والتعاون والتنشيط والتظاهرات العلمية، وضعت مخططا شاملا لإعادة النظر في خريطة وطريقة تنظيم الملتقيات العلمية لأنني لم أكن مقتنعا بالخريطة والطريقة القديمتين اللتين لا تقدمان شيئا ذا بال للجامعة الجزائرية، علاوة على أن أغلبها يشكل عبئا إضافيا على ميزانية الدولة، ولكن شاء الله أن أغادر المنصب قبل أن أشرع في تجسيد هذا المخطط الذي أحسبه عملا إصلاحيا حقيقيا يجعل ملتقياتنا العلمية وسيلة لتطوير البحث العلمي ورافدا من روافد التنمية الوطنية، ولا بأس أن أعرض في هذا المقال الخطوط العريضة لهذا المخطط لعلها تسهم ولو بقدر محدود في القضاء على الصورة النمطية لملتقياتنا العلمية التي تختتم في الغالب الأعم بتوصيات جوفاء تحفظ في الأدراج وتأكلها الأرضة مع مرور الأيام.

هذه في تصوري هي صورة الملتقيات العلمية التي ننشدها:

أولا: ملتقيات علمية لا جمعيات خيرية

إن الغاية من الملتقيات العلمية هي محاولة اكتشاف المواهب الفكرية التي يمكنها أن تشكل قيمة مضافة تستفيد منها الجامعة الجزائرية وتكون عاملا من عوامل تطوير البحث العلمي، ولا  تتحقق هذه الغاية إلا بوضع معيار دقيق لاختيار المحاضرين ممن يملكون رصيدا معرفيا متميزا، وممن يمكنهم أن يقدّموا لجموع الحاضرين مادة معرفية رصينة تصقل أذهانهم وتصحح أخطاءهم.

بهذا المعيار المعرفي تسير الجامعات العالمية ملتقياتها العلمية وعلى الجامعات الجزائرية أن تأخذ بنفس المعيار لأن نتيجة تطبيق هذا المعيار مدهشة ومثمرة، فقد استطاعت بعض الجامعات الأمريكية على سبيل المثال تحسين أداء باحثيها وضمان استمرار تقدمها في التصنيف العالمي للجامعات من خلال التركيز على تنظيم الملتقيات الدولية التي تستثمر نتائجها في تطوير المنظومة البحثية.

لا نريد أن تتحوَّل ملتقياتنا العلمية إلى جمعية خيرية يُدعى إليها حشدٌ من المحاضرين الذين لا تكاد تجد بينهم محاضرا واحدا جادا ينثر من معارفه ويقدِّم من خبراته ما يفيد الحاضرين. إن الحشد من المحاضرين من هذا الصنف لا جدوى من حضورهم لأنهم كالإبل المائة التي لا تجد بينها راحلة. إننا ننظر إلى الملتقيات العلمية بنظرتين: نظرة مادية كونها ملتقيات لا تنظم من فراغ بل تُرصد لها ميزانية قليلة أو كثيرة، وعلى المنظمين أن يكونوا أمناء في صرف هذه الميزانية في وجوهها الإيجابية من خلال الحرص على وضع معيار انتقائي للشخصيات المحاضرة من أجل تحقيق الأهداف المسطرة واستخلاص الفوائد المرجوة التي تشكل حافزا حقيقيا للجامعة لإعادة تجديد منظومتها المعرفية.

ثانيا: ملتقيات تهتم بعمق المحتوى

إن الغاية من تنظيم الملتقيات العلمية هي تلاقح الأفكار وهذه الأفكار بالميزان العلمي على مراتب: أفكارٌ مجترّة ومكررة ليس لصاحبها جهدٌ علمي يذكر وهي في غالبها قص ولصق وإعادة استساخ لما يتيحه محرك البحث “غوغل”، وقد لا تتفطن اللجان العلمية للملتقيات لهذا الأمر فيمرَّر ويكرم صاحبُه ويعطى شهادة شرفية على عمل غير مشرف وغير شريف لأنه شكل من أشكال السرقة العلمية التي تتنافى مع أخلاقيات البحث العلم، وأفكار جديدة تحمل في طياتها معارف جديدة أو معارف قديمة مطورة بالمقاييس المنهجية المتعارف عليها.

يجب على اللجان العلمية للملتقيات العلمية أن تعتمد أعلى معايير التحري من أجل منع بعض المتسللين وأشباه الباحثين من حضورها الذين يشكل حضورهم سابقة خطيرة تؤثر على مصداقية الملتقيات ومصداقية الجامعات التي تنظمها. لا نشك في كفاءة ونزاهة اللجان العلمية للملتقيات ولكننا ندعوها بدافع الغيرة على الجامعة الجزائرية أن تتحلى بأعلى درجات المسؤولية العلمية والأخلاقية الملقاة على عاتقها فلا تمر على المداخلات مرا سريعا بل تفحصها فحصا دقيقا لتمييز “الخبيث من الطيب” وبهذا تحفظ للجامعة الجزائرية سمعتها العلمية.

لقد طغت شكلية الصورة على عمق المحتوى في ملتقياتنا العلمية إلا في استثناءات محدودة، فإذا كان يوم الملتقى خرج علينا بعض قومنا في زينتهم، يتسابقون إلى الصفوف الأولى ويجلسون وعيونهم شاخصة ترقب كاميرات التصوير وتميل حيث تميل. لقد تحوّلت أغلب ملتقياتنا العلمية إلى مناسبة استعراضية يستغلها بعض عديمي الفكر لتضخيم الأنا وتعويض العوز الفكري الذي يعانونه لأنهم لا يملكون إلا هذه العملة “فكل إناء بما فيه ينضح”. وهناك حقيقة مرة وصادمة لا مناص من ذكرها وهي أننا لم نرقَ بعد إلى المستويات العالمية في تنظيم الملتقيات العلمية، إننا نشارك في ملتقيات علمية تنظمها جامعات أمريكية وأوروبية وبعض الجامعات العربية للأمانة، فنجد أنفسنا أميين أمام فطاحل الفكر، ونطلع  في المقابل على أشغال ملتقياتنا العلمية فلا نقف إلا على ألبوم للصور.

ثالثا: رافدٌ من روافد التنمية الوطنية

لكي نحقق هذا المقصد، يجب أن نضع حدا  لظاهرة المجانية المطلقة للمشاركة في الملتقيات العلمية، وليس في هذا الإجراء ما يتنافى مع فكرة “مشاعية العلم” أو كونه حقا مشاعا، ولا يشكل هذا الإجراء أيضا سابقة في تاريخ الملتقيات؛ فجلُّ الجامعات العالمية تُلزم المشاركين بدفع حقوق المشاركة التي تخصَّص لدفع مستحقات المحكّمين والمنظمين ولطبع أعمال الملتقيات، لا أن تتكبد الجامعة المنظمة كل هذه المصاريف فلا ينفض الملتقى إلا على رقم مالي رهيب لا أحسبه إلا شكلا من أشكال تبديد المال العام.

إن هذه النفقات الكبيرة على الملتقيات العلمية لا يمكن تعويضُها أو تخفيفها وتقليصها إلا بالتخلي عن فكرة المجانية المطلقة واستحداث نظام “المقابل المالي” لحضور الجلسات والورشات، كما يجب على الجامعات الجزائرية -في هدا السياق- أن تشكل فريقا متميزا من الخبراء مهمّتُهم مراجعة الأبحاث المشاركة وترشيح أفضلها للنشر في كتاب الملتقى الذي يجب أن لا يبقى متداولا داخل أسوار الجامعة أو ما حولها، بل يجب أن يسوَّق على أوسع نطاق، وهذا من شأنه أن يشكل رافدا من روافد التنمية المعرفية. يجب أن نغير نظرتنا إلى الملتقيات العلمية وننتقل من صيغة الملتقيات التي تعتمد اعتمادا مطلقا على ميزانية الدولة إلى صيغة  الملتقيات التي تموِّل نفسها بنفسها وتخفف بعض الأعباء المالية عن الدولة التي يمكن أن تحول لتمويل مشاريع أخرى.

رابعا: ملتقياتٌ علمية عالمية

لقد أصبحت صفة “العالمية” و”الدولية” صفة فضفاضة تُضفى على الملتقيات، ما يرقى منها إلى العالمية وما لا يرق، شأنها في ذلك شأن بعض المجلات العلمية المحكّمة التي تُذكر بهذه الصفة حتى إذا اطَّلعت عليها ولّيتَ منها فرارا ولم تجد فيها شيئا من ذلك.

إن صفة “العالمية” للملتقيات العلمية صفة تجسِّدها طبيعة الملتقى وشخصية المشاركين فيها ونوعية الموضوعات التي تتناولها وليس صفة تحرَّر على الورق ثم لا يتحقق منها على أرض الواقع شيء. تتباهى بعض الجامعات الجزائرية بعقد ملتقيات دولية فإذا تصفحتَ بطاقة الملتقى وجدت من بين الحاضرين الدوليين شخصية علمية وحيدة، يُحجز لها في كل سنة وفي كل مناسبة مقعدٌ في الملتقى تنفيذا لمبدأ المقايضة وتبادل المنافع فتأتي هذه الشخصية المحظوظة والمقرَّبة من هناك لا تحمل في جعبتها شيئا وتجلس في المنصة تتمتم ببعض الكلمات التي لا لون لها ولا طعم ولا رائحة.

تحدثتُ عن عالمية الملتقيات من باب  تقرير ما اشتهر في تقاليد بعض الجامعات وإن كنت أرى أن عالمية الملتقيات، يمكن أن تتحقق فقط بوجود الكفاءات الوطنية دون غيرها لأن العالمية يحققها عمق المحتوى -كما أسلفت- وليس جنسية المحاضرين، وهذا هو الفهم السليم لفكرة الملتقيات العلمية.

 خامسا: ملتقيات مشتركة لتكريس التعاون بين الجامعات

تعدُّ الملتقيات المشتركة من أنجع الطرق لتكريس التعاون بين الجامعات وتقليص النفقات، فهناك جامعاتٌ جزائرية على سبيل المثال تتلقف الموضوعات المستجدة والمعاصرة من شاكلة المالية الإسلامية فتتنافس فيما بينها لتحقيق السبق في هذا الميدان فتعقد عدة ملتقيات لموضوع واحد في جامعات مختلفة، والأفضل أن تنسق الجامعات الجزائرية بينها في هذا المجال وتنظم ملتقى مشتركا يكون نفعه أكثر ووقعه أكبر.

هناك حقيقة مرة وصادمة لا مناص من ذكرها وهي أننا لم نرقَ بعد إلى المستويات العالمية في تنظيم الملتقيات العلمية، إننا نشارك في ملتقيات علمية تنظمها جامعاتٌ أمريكية وأوروبية وبعض الجامعات العربية للأمانة، فنجد أنفسنا أميين أمام فطاحل الفكر، ونطّلع  في المقابل على أشغال ملتقياتنا العلمية فلا نقف إلا على ألبوم للصور.

من سلبيات التنظيم الأحادي والارتجالي للملتقيات والتي وقفتُ عليها من متابعتي لأشغال بعض الملتقيات الدولية حول المالية الإسلامية في بعض الجامعات الجزائرية أنها لم تشتمل على ورقة علمية واحدة تصلح أن تكون ورقة طريق لتطوير المالية الإسلامية وتنوير الرأي العام حول نجاعتها وضرورتها لإصلاح النظام المالي من خلال تأسيس نظام مالي إسلامي يوازن بين حقوق البنك وحقوق الزبون وفق مبدأ المرابحة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • عبود

    مقال في الصميم، شكرا يا أستاذ.