-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كيف نقرأ التاريخ؟ 1

التهامي مجوري
  • 938
  • 0
كيف نقرأ التاريخ؟ 1

التاريخ هو ما حدث بالماضي، من وقائع وأحداث ونجاحات وإخفاقات وتطورات…، وهذا الذي وقع في الماضي، ليس مجرد وقائع حدثت وانقضت، وإنما هو خزان الأحداث الذي تتراكم فيه خبرات الشعوب والأمم والحضارات والثقافات، التي يستمد منها العالم البشري قوانينه الإنسانية عموما.

فالعلوم الإنسانية كلها مستندة إلى الخبرة التاريخية؛ بل إن قيمة العلوم وتطورها وإضافاتها لا تعرف إلا بالتاريخ، ومن ثم فإن القراءة التاريخية لا تقف عند الحدث وصحة وقوعه من عدمهما، وإنما تتعداه إلى الكشف عن خبايا هذا الخزان الذي يحتوي على جوهر تفاعل الإنسان مع الطبيعة، في جميع وقائعها، في السلم وفي الحرب، وفي النجاح وفي الإخفاق، وفي التنافس والصراع والتداول والتدافع، وفي الخير وفي الغير، وذلك للكشف عن حقائق السلوك الإنساني وعلاقتها بالوجود، سلبا إيجابا.

إن الأحداث التاريخية كثيرة ومتوعة، فكل واقع غادرنا وودعناه من حيث المبدأ، هو ماضي قد دخل التاريخ بمعناه التخزيني التراكمي، وليس بمعنى القفزات النوعية التي تستحق الإشادة والثناء، أو السقطة المؤذية التي تحن إلى التملص من مآسيها والتبرء منها، وإنما هو وقائع تتضمن قوانين ناظمة لها مهما كانت نتائجها سلبية أو إبجابية، وكما أن للناس مواقف وآراء في تلك الوقائع متباينة، وفق منظورات ومبررات مختلفة، فإن للتاريخ حقائقه ونظامه وصرامته في الموقف من الناس والأشياء والأحداث، بحيث لا يمكن أن يقبل التاريخ العفوية ولو كانت تبدو كذلك، لأن قوانين التاريخ منضبطة وفق منظومة المقدمات والنتائج، فلا يمكن بمنطق التاريخ أن تكون المقدمات في واد والنتائج في واد آخر، وإلا كان التاريخ وأحداثه عبثا لا تعبر عن شيء.

فهل يمكن قراءة هذا التاريخ في كل زمان ومكان وحال بنفس العقلية، وبنفس المبادئ والمواقف والآراء؟ أي عندما نقرأ واقعة ونفهمها عندما تحدث، هل يمكن أن ونقرِءها بنفس الطريقة بعد عشر سنوات؟ ثم نقرؤها بعد عشرين سنة؟ ثم نقرؤها بعد قرن؟ وهل نخرج بنفس النتائج، أم أننا نخرج بنتيجة واحدة متوقعة؟ أم أننا يمكن أن نخرج بمواقف وآراء مختلفة،  ولكن كلها معتبرة؟

هذه تساؤلات تبدو بسيطة وساذجة، ولكن في موقفنا من التاريخ ومقدار حظنا في الاستفادة منه، أو هكذا يفترض، يعتبر أن هذه التساؤلات مفصلية.

ذلك أن أحداث التاريخ ووقائعه تحتوي على قوانين ثابتة من نجح في إدراكها حيزت له أصول المسائل الإنسانية كلها، وأخرى متغيرة تتغير بتغير الزمان والمكان وأحوال الناس، من أدرك هذه التغيرات فقد تجاوز مراحل الخطر فيما ينشط فيه.

ولكن يبقى دائما الإشكال في القرب من الحدث والبعد عنه، إلى أي مدى يكون القرب والبعد الزَّمَنِيَيْن مؤثرا على فهم الحدث والوصول إلى مبرراته الموضوعية؟ ويضاف إلى الزمن واقع الإنسان نفسه، الذي قد يكون تفاعله في قراءته للوقائع واحد على طول عمره؟ فهو شاب وكهل وشيخ، رغم أن كل حالة من هذه الحالات طبيعتها المختلفة عن أختها في قليل أو كثير، والمفترض أن تتغير قراءته بتغير المراحل العمرية وطبيعتها، فالشاب يغلب عليه الإندفاع، والكهل أقرب إلى التريث، أما الشيخ فغالب طبعه الرتابة، ولذلك مبررات موضوعية لا يمكن إغفالها، وقراء الأحداث التاريخية لا يمكن أن تكون سواء في مثل هذه المراحل بسبب ما بينها من تباعد في الطبيعة.

وكثيرا ما يتبنى المرء في شبابه مواقف وآراء في الأحداث التاريخية وفي غيرها، ولكنه عندما يبلغ سن الكهولة أو الشيخوخة تراه، مترددا في الإبقاء على ذلك الموقف أو ذلك الرأي، وربما ندم على شيء بدر منه وهو شاب ولكن بعد ماذا؟

ويضاف أيضا إلى هذين المفصلين، مشكلة أخرى مهمة أيضا وهي ما مدى موضوعية قراءة مَنْ كان في قلب الحدث والواقعة…إلخ، هل تكون مثل الذي يقرؤه من بعيد أم أفضل أم ادنى؟

نحن إذن أمام ثلاث حالات تعتري قراءة التاريخ، قراءة لها علاقة بالقرب والبعد الزمني من الأحداث، وقراءة المرحلة العمرية التي يكون فيها القارئ، شابا وكهلا وشيخا، وقراءة من كان مشاركا في الحدث وشارك في صناعة الهزيمة والانتصار!!

ولهذه الحالات الثلاث أثر ظاهر في قراءة التاريخ، فقراءة التاريخ القريب زمنيا يصعب الوصول فيه إلى حقائق بعيدة عن المؤثرات الجانبية المشوشة على الحدث، وكلما ابتعد الناس عن زمن الحدث، ازداد الناس تجردا وموضوعية في النظر إلى الحدث. سئل الدكتور أبو القاسم سعد الله رحمه الله عن الكتابة في تاريخ الثورة، فأجاب بأن تاريخ الثورة لا يمكن كتابته إلا بعد خمسين سنة ولا أدري متى قال هذا الكلام، وربما قاله في الثمانينيات؛ لأن المشاركين في الحدث لا يزالون أحياء، والمشارك في الحدث لا يسمح للدارس بفهم الحدث وبالوصول إلى أعماقه، سواء بالتشويش عليه أو بالتشكيك في نواياه، ومن ثم لا يمكن فهم الحدث، وتحليل مراد الله فيه وكيفية وقوعه؛ لأن هؤلاء المشاركين لا يمكن أن يكونوا موضوعيين، وكذلك بسبب علاقة المجتمع المباشرة بالحدث، إذ العلاقة المباشرة للمجتمع بالحدث تؤثر أيضا على مسار تفسير الأحداث التاريخية، كما سنرى ذلك في كلامنا عن طبيعة التاريخ نفسه، وكذلك بسبب السلطة التي للمشاركين الأحياء على الحدث نفسه، باعتبارهم من صناعه، فلا يسمحون لغيرهم بالقراءة المغايرة مهما كانت موضوعية، ولذلك أسباب نفسية يطول شرحها.

كل هذه الأمور لا يمكن تجاهلها، ولو كان ذلك من خارج دائرتهم، كأن يكون قارئ الحدث مختلف عنهم، أما المراحل العمرية وأثرها في قراءة التاريخ فالاختلاف فيها واضح جدا كما أسلفنا.

وبالفعل فقد لمسنا هذا فيما ينشر من مذكرات لبعض المجاهدين في الكثير من المسائل التاريخية، في الموقف من اندلاع الثورة؟ وفي الجدل الذي بين العسكريين والسياسيين؟ وفي تفسير بعض سلوكات المجاهدين، خيانات أم اجتهادات أم مسالك عفوية؟

ولعل أبرز ما يمكن استحضاره هنا، مذكرات المجاهد علي كافي، التي ذكر فيها عبان رمضان بما يكره، فرفعت عائلة عبان دعوى قضائية ضد علي كافي، ومنعت المذكرات من التداول، رغم أن علي كافي تكلم عن وقائع هو شاهد عليها، ومع ذلك اعتبر ما قال مجانب للحقيقة قضائيا…، وكذلك في تفسير بعض الأحداث، فقد كتب الأستاذ أحمد توفيق المدني مذكراته في أجزاء ونشرها بعنوان “مذكرات كفاح”، وعُقِّب عليه في بعض الأمور وشُكِّك فيها، بأقلام معاصريه وشركائه في النضال.

ولعل لهذا السبب لا تعد المذكرات تاريخا إلا بمقدار؛ لأنها تمثل قصة حياة، وقصة حياة فرد ليست هي التاريخ، وإنما هي عند بعض الأشخاص الذين لهم أثر في الشأن العام، واعتبروا بذلك شخصيات عمومية من التاريخ، لأن مذكراتهم تعتبر وثائق تاريخية هامة تمثل جزء من التاريخ الذي لا يجوز إغفاله وإلا بقيت ثغرات في أحداث التاريخ لا يسدها إلا تلك الشهادات التي يدلي بها زيد أو عمرو في مذكراته.

فالتاريخ إذا لا تمثل فيه مذكرات الأشخاص إلا الجُزَيْء؛ لأن ما يدونه الناس من مشاهداتهم وملاحظاتهم وقراءاتهم، يمثل قراءة من القراءات وليس كل القراءات التي تليق بالحدث ليكون تاريخا، وينبني على هذه الفكرة أيضا قصور القراءات التاريخية القريبة من الحدث وقراءات المشاركين في الحدث، وقراءات الفئات المتباينة عمريا؛ لأن عمل السن في قراءة الأحداث له أثر كبير.

فما هو هذا التاريخ؟ وكيف تكون قراءته السليمة؟ ذلك ما سنحاول الإجابة عنه في الحلقة القادمة إن شاء الله.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!