-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كَعْبتُنا باريس… عدا في مجال العلم!!

كَعْبتُنا باريس… عدا في مجال العلم!!

لكلّ منا كعبته، وكعبة جل ساستنا باريس، وهؤلاء ليسوا الوحيدين الذين لهم هذه الوجهة، فالناس معظمهم على دين ملوكهم، لكن، ما المانع أن تكون باريس كعبتهم؟ لا مانع أبدا، فهذا شأنهم ولا يحق لنا الجدال فيه… تماما كما كان الثوار في زمن مضى يعتبرون الجزائر كعبتهم، ما يمكن أن نجادل فيه هؤلاء الساسة هو أنهم لم يبذلوا جهدهم لجعل الجزائر تنتفع بما هو مفيد للأجيال كما تفعل باريس، وما يفيد الأجيال بالدرجة الأولى هو العلم وطلبه، وباريس كمدينة تُعتبر قطبا علميا عالميا في الكثير من المجالات، ذلك ما حرص عليه أهلها حتى تكون منارة علمية لبلدهم وفخرا للأجيال.

باريس “العاصمة العالمية للرياضيات”

وفي هذا السياق يعمل أهل باريس على أن تكون مدينتهم “العاصمة العالمية للرياضيات”، وشيئا فشيئا بدأ هذا الحلم يتحقق، فباريس معروفة بمؤسساتها الأكاديمية الراقية في الرياضيات بصفة خاصة، نذكر من بينها جامعات باريس 5 و6 و7 و9 و11 والكوليج دي فرانس ومعهد هنري بوانكري وأكاديمية العلوم والمدرسة المتعددة التقنيات والمدرسة العليا للأساتذة ومعهد الدراسات العلمية العالية، إضافة إلى المركز القومي للبحث العلمي وعدد كبير من مخابر البحث في الرياضيات.

 كل هذه المؤسسات العريقة والمتجاورة تتكاتف وتنتج سنويا كمًّا هائلا من النظريات والنتائج الأصيلة تقدر بالمئات في الرياضيات بكل فروعها، كما تتعاون فرق البحث فيها مع مخابر ومراكز أخرى في شتى بلدان العالم، ذلك ما جعل فرنسا تحتل المرتبة الثانية عالميا في الرياضيات بعد الولايات المتحدة، علما أن قبل قرابة عقديْن لم تكن تحتل هذه المرتبة.

والدليل على رقي فرنسا في مجال الرياضيات هو ما حصدته من جوائز عالمية منذ عقود، وعلى سبيل المثال فإن أعلى وسام في الرياضيات هو ما يُعرف بـ”ميدالية فيلدس” (التي تعادل جائزة نوبل غير المتوفرة في الرياضيات)، نلاحظ أن هذه الميدالية مُنحت منذ نشأتها عام 1936 إلى 52 عالما، من بينهم 12 فرنسيا و13 أمريكيا، والباقي اقتسمته الدول التالية: روسيا(8)، بريطانيا(6)، اليابان(3)، ألمانيا، إيطاليا، سويسرا، السويد، فنلندا، هونغ كونغ، إسرائيل، الفيتنام، البرازيل، إيران (مع بعض الاعتبارات الراجعة إلى أن البعض يتمتع بجنسيتين).

وهذا التميّز لفرنسا في الرياضيات لم تحظ به في العلوم الأخرى بل هي دون ذلك بكثير، ويُذكر أن سياسة البلاد تسعى بقوة إلى الإبقاء على هذا التميّز حتى إن ثمة أكاديميين فرنسيين يشكون من قلة الدعم في حقول العلم الأخرى مقارنة بما تجد الرياضيات من عناية !

ودعما لهذا التوجه أنشأت مخابر البحث والجامعات والهيئات العلمية في باريس “مؤسسة علوم الرياضيات الباريسية”. الهدف البعيد لهذه المؤسسة هو: جعل باريس كعبة علماء الرياضيات في العالم واستقطاب المواهب الشابة عبر العالم، وتوفير لهم كل مستلزمات الإبداع (منح ومرتبات مغرية…).

ويعمل القائمون على هذه المؤسسة الآن على تعقّب الموهوبين، حيثما كانوا للاتصال بهم وبأساتذتهم لجلبهم إلى هذه المؤسسة، وفي تلك الأثناء يسعى هؤلاء الخبراء إلى إنشاء مشاتل في الرياضيات عبر البلدان الفرانكفونية في إفريقيا وآسيا يسهل عليهم فيما بعد استقطاب خيرة مواهبها، كما يقومون بحملات توعوية لجلب المال من رجال الأعمال والصناعة والاقتصاد والشركات المختلفة، ورغم هذه الجهود وما تحقق من نتائج مبهرة فهؤلاء الأساتذة المشرفون على المشروع يقولون إن المشوار لا زال طويلا، ويعتبرون أنفسهم في بداية الطريق … طريق “الحرب من أجل المعرفة” (هكذا وُصِف المشروع)! هذا شأن العلم والرياضيات في باريس. فما شأنها في بلدنا؟

مركز البحث في الرياضيات والأولمبياد

المتشدقون عندنا بالعمل على دفع عجلة العلم والبحث في البلاد لهم سلوكات تختلف عن سلوكات من سبق ذكرهم، وهذا رغم أن منهم من هو ملم بالكبيرة والصغيرة بخصوص ما يدور في باريس، قد يظن القارئ أن الزملاء هنا غافلون عن هذا الوضع ولم تكن لهم محاولات يُحمَدون عليها ولهم فيها “أجر واحد”، وحتى نبطل هذا الظن نستعرض بإيجاز طريقة تعامل ساستنا مع الزملاء في موضوعين من هذا القبيل:

 * الموضوع الأول: كانت سنة 2000 السنة العالمية للرياضيات، ولذا عمل الزملاء خلالها على تنظيم لقاء كبير بين الجزائريين المختصين في الرياضيات العاملين في الجزائر وخارجها، وكان تجمعا ضخما كاد أن يفشل تنظيمه في آخر لحظة -بسبب تلكؤ وزير التعليم العالي- لولا تدخل وتشجيع رئيس الحكومة آنذاك أحمد بن بيتور.

ومن جملة توصيات ذلك اللقاء إنشاء مركز بحث في الرياضيات يستقطب المواهب الوطنية ويكون منارة علمية للبلاد، كما فعلت عديد الدول المتقدمة والنامية، وتم الترحيب بالفكرة وعمل الزملاء في الداخل والخارج منذ ذلك الحين على تجسيدها، لكن أصحاب القرار لم يكترثوا بالموضوع فقضوا على طموح الزملاء بطريقة “الاستنزاف”.

ثم شاءت الأقدار أن يُبعث الأمل مجددا بعد مضي نحو 10 سنوات، وكان هناك ترحيب، سيما بعد إنشاء هيئة عليا تسمى “المديرية العامة للبحث العلمي والتكنولوجي”، فقد أخذت هذه المديرية على عاتقها إنشاء المركز المذكور وعملت من أجله، لكن سرعان ما تبخر المشروع بعد أن عقدت بخصوصه الاجتماعات بمشاركة جمع من أساتذتنا في الداخل والخارج، وبلغ المشروع مرحلة متقدمة حين خصصت له قطعة أرض في مدينة سيدي عبد الله العلمية.

كانت هذه الخيبة ضربة موجعة للزملاء الذين بذلوا الجهود المضنية. فقد تفانوا في تحقيق المشروع بتخصيص له وقت ثمين ودراسات مختلفة واتصالات عديدة بمراكز علمية عالمية من هذا النوع حتى وصل بهم الأمر إلى تصميم المركز معماريا بكل ما فيه من تفاصيل!

وبعد أن امتص هؤلاء المناضلون الصدمة عاودوا الكرّة فعاودت السلطات التظاهر بالاهتمام وتمت كتابة النصوص القانونية لإنشاء المركز ومراجعتها، حتى وصل الملف إلى الوزارة الأولى منذ مدة، وهناك توقف حمار الشيخ مرة ثالثة، والجميع ينتظر الجديد لحد الساعة.

* الموضوع الثاني: حث زملاء كثيرون السلطات في وزارة التربية منذ سنوات على العناية بالنخبة وبالمتميزين في شتى العلوم وبصفة خاصة الرياضيات، وكذا المشاركة في منافسات الأولمبياد العالمية في الرياضيات، وكان لا بد من إيجاد مدرب محترف فتطوع أحد الأساتذة المغتربين منذ 3 سنوات، وكان عليه أن يزور الجزائر عدة مرات لتكوين التلاميذ حضوريا ومتابعتهم بعد ذلك عن بعد.

وقد نجح في إعداد التلاميذ فشاركوا خلال السنتين الماضيتين في تايلاندا وهونغ كونغ وإيطاليا ونالوا نتائج أولمبية عالمية طيبة هنأتهم عليها وزيرة التربية والوزير الأول شخصيا، كل هذا جميل ومشجع، لكن ما يحز في النفس أنه لحد الساعة لم تستطع وزيرة التربية ولا وزير التعليم العالي ولا الوزير الأول حل مشكلة تذكرة تنقل المدرب المتطوع (الذي يقضي إقامته في بيت أهله بالعاصمة خلال فترة التدريب)، وهذا بعد مضي أزيد من سنتين كاملتين على بدء العملية!

في النهاية نطرح التساؤلات التالية: هل يمكن أن نصدق أن كل هذه الجهات الرسمية عاجزة عن حل مشكلة تذكرة مدرب في هذا المقام؟ هل نتصور أن المديرية العامة للبحث العلمي التي قيل إن ميزانيتها قد تضاعفت رغم التقشف عاجزة أيضا عن الحل؟ هل نتخيل أن أعلى السلطات ظلت عاجزة طيلة 16 سنة عن تأسيس مركز البحث في الرياضيات؟ وبالتالي، كيف يصدق المواطن أن أهل الحل والربط يسهرون، كما يدّعون، على مصلحة البلاد ومستقبل أجيالها في المجال العلمي؟ فمتى، يا تُرى، تكون باريس فعلا كعبتنا في هذا الموضوع؟!!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!