كُورَالٌ واحد إسلامي – ليبرالي – يساري: الثقافة ليست أولوية
“الثقافة ليست أولوية”، هي الأغنية التي تحسن جميع الأحزاب أداءها وبامتياز، “الثقافة ليست أولوية” تُجْمِع الأحزاب كلها على هذا الرأي في الفعل والقناعة والخطاب، تُجْمِع على ذلك وبكل اللغات المستعملة في الجزائر: العربية اللغة الوطنية الرسمية، وبالأمازيغية اللغة الوطنية، وبالفرنسية لغة الاستعمار ولغة تدريس الطب والتكنولوجيا والرياضيات، تقول الأحزاب بعظم لسانها، وعلى نفس الوتيرة، وفي ذلك يتشابهون كالإخوة التوائم: الثقافة ليست أولوية، يقال مثل هذا الكلام منذ نصف قرن، نصف قرن ولم تتغير الأولويات.
تقول الأحزاب: إن أولوية الأولويات في بلادنا هي السكن، وحين تُبنى المساكن، والحمد لله، تُبنى في شكل عمارات هي النموج الأمثل للقبح، بنايات قبيحة بلا روح ولا فن ولا حضارة، سنحتاج ذات يوم قريب لميزانية أخرى لهدمها والقضاء عليها وربما ستكلف دولة المستقبل ضعف ما كلفت دولة الراهن حين البناء، وحين تتحول ساحات وأرصفة هذه الأحياء الجديدة التي تطلق عليها تسميات غريبة: حي 560 سكنا، حي 435 سكنا، حي 237 سكنا وهلم جرا: تسميات بالأرقام كما تسمى الزنازين… حين تتحول إلى مزابل عمومية والعمارات الجديدة بين عشية وضحاها خربة ومهترئة وحزينة ولم يتجاوز عمرها السنة، تقول الأحزاب إسلاميوها وجمهوريوها ووطنيوها ولائكيوها: إن هذا نتاج غياب الثقافة، ولكن “الثقافة ليست أولوية”.
“الكتاب ليس أولوية”، تجمع الأحزاب كلها على ذلك، وكأنها رضعت من ثدي واحد لبن “السياسة”، وتقول بالإيحاء الساخر أو التصريح المبين: من يدافع عن الكتاب هم من بقايا الحالمين الرومانسيين أو من المجانين الذين لم يُدخلوا مشفى الأمراض العصبية أو ممن ليست لهم علاقة بهذا البلد، أي مفصومي الشخصية وربما من عملاء الخارج، وحين يسافر رؤساء أحزابنا وبرلمانيونا في مهمة رسمية إلى هذا الخارج ويحدث أن يركبوا القطارات أو المترو أو الحافلات العمومية ويشاهدوا الخلق في بلدان ما وراء البحر يقرؤون بنهم بين محطة وأخرى، يقولون: إن غياب القراءة في بلادنا هو سبب تخلفنا. ولكن “الثقافة ليست أولوية”.
وحين ينتبه الواحد منهم إلى ابنه أو ابنته، إذا كان له الوقت للانتباه، ويجده لا يحسن لا العربية ولا الفرنسية، ويسمع من يصرخ قائلا محذرا: أيها الناس الطلبة يتخرجون من الجامعة ولا يحسنون كتابة طلب توظيف دون أخطاء، يجيب الحزبيون والبرلمانيون والتنفيذيون من أولي الأمر، في الصباح: هذا راجع لغياب سياسة الكتاب وانتفاء القراءة التي تهذب السلوك وترفع المدارك. وفي المساء يقولون: “الكتاب ليس أولوية”.
“المسرح ليس أولوية”، والذهاب إليه كليس الذهاب إليه تماما بتمام، والمسرح تمثيل كاذب، وصراخ وعويل وكذب وقد يصل إلى مرتبة الحرام لأن الواحد على الخشبة يتشبه بالآخر، وهو إضافة إلى ذلك من مخلفات عهد الاشتراكية والتسيير الذاتي للمؤسسات وبن بلة وشي غيفارا وبومدين… وحين تتاح لبعض من رهط سياسيينا الاستماع إلى نظرائهم من بلدان أخرى على طاولة عشاء في زيارة رسمية يتحدثون بإعجاب ونهم وشهية ثقافية وجمالية عن شكسبير أو موليير أو بريخت أو ميلّر أو برانديللو أو أرمون غاطي أو لوران تيرزييف لا يتذكرون بأن لهم أسماء لامعة ولكنهم يجهلونها: مصطفى كاتب، علولة ومجوبي وكاكي وسليمان بن عيسى وصونيا وعمر فطموش وفلاق و… إن المسرح ليس أولوية في بلادنا.
و”الفن التشكيلي ليس أولوية” أبدا، بل إنه لعبة ألوان وأصباغ أطفال، ومجال لأصحاب الشغل الفارغ، وحين يسمعون أو يقرؤون في مجلات قد تسقط بين أيديهم وهم في قاعة الانتظار عند طبيب أسنانهم في باريس أو جنيف، فيقرؤون بأن الياباني، وهم الذين يستعملون آخر أجيال الهواتف اليابانية المحمولة، هو أكثر من يخاف على لوحاته الفنية التي يشتريها، وخوفا وحرصا على سلامتها يؤمنها، لدى أكبر الشركات العالمية للتأمين، يقولون: هذه ثقافة غربية، مع أن اليابان في الشرق، المسرح ليس تقليدا عربيا وليس أولوية في التنمية الوطنية المستدامة!!
هل يعلم حزبيونا وبرلمانيونا في القاعة السفلى وفي العليا بأن ما يدره الكتابُ على لبنان اقتصاديا أكثر مما تدره جميع صادرات الجزائر خارج المحروقات على بلادنا التي مساحتها تبلغ 229 مرة مساحة لبنان؟ حكاية تدوخ!!
هل يعلم حزبيونا وبرلمانيونا القابعون في القاعة السفلى وفي العليا بأن من يحدد سوق اللوحات الفنية في بعض الدول القريبة منا، دول الجوار، هي الطبقة السياسية، وأن كثيرا من أسمائنا الجزائرية ذات التوقيع والأسهم في سوق الفن التشكيلي في العالم تحدد سقف أسعار توقيعاتهم في هذه البلدان المجاورة ومن قبل هذه الطبقة السياسية.
“الثقافة ليست أولوية”، هو الشيء الوحيد الذي يتفق عليه ويجمع عليه الجميع من الأحزاب: الخصوم والأصدقاء والتكتل والتفتت والتحالف، ولكني أسأل، وبكل صدق، الطبقة السياسية في بلادنا: أسأل رؤساء الأحزاب والبرلمانيين بغرفتيه كم من مسرحية شاهدوها في حياتهم السياسية؟ أسألهم كم من عرض سينمائي شاهدوه؟ كم من رواية قرأوها؟ كم متحف زاروه؟ أنا لا أتحدث هنا عن حضورهم افتتاح التظاهرات والمهرجانات الموسمية وما أكثرها هذه السنوات، أحلفكم برؤوس أمهاتكم العزيزات عليكم وعلينا هل فكر أو أقدم أحدكم، خارج الكرنفالات والوعدات والزردات (على حد تعبير مولود قاسم الله يرحمه) الثقافية، على تخطي عتبة هذه الفضاءات الثقافية ذات يوم؟ أحلفكم برؤوس أمهاتكم العزيزات عليكم وعلينا، متى أحدكم اصطحب زوجته وأبناءه إلى فضاء من هذه الفضاءات؟
إذن لكل ذلك أقول: أنتم صادقون أيها البرلمانيون، الإسلاميون منكم والسلفيون فيكم واليساريون بينكم والوطنيون لديكم فـ”الثقافة ليست أولوية” في التنمية المستدامة!! والكتاب ضياع للوقت و”تكسار” الرأس، والمسرح “تبهليل” والفن التشكيلي “شْكيلْ وخربشة“…