-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
رحلة مع ذي القرنين

لا تستصغر ما عندك من قوّة

أبو جرة سلطاني
  • 616
  • 0
لا تستصغر ما عندك من قوّة

ليس شرطا أن تكون القوّة ماديّة؛ فالدّعم المعنوي قوّة. وعدم الوقوف في وجه العاملين قوّة. وتكثير سواد القوّة قوّة.. وهو الدّرس الخامس الذي نتعلّم منه واجب التّطوّع بفائض القوّة الفكريّة والبدنيّة والعلميّة.. وبما وهبنا الله من ذكاء وما اكتسبناه من خبرة لمساعدة فاقديها وحثّ العاجزين عن اكتشافها في أنفسهم على تنميّتها وحملهم على تربيّتها وتوظيفها أو إعادة اكتشافها فيهم ثمّ تدريبهم على استثمارها وحسْن استخدامها في حياتهم اليوميّة وتخليصهم من ثقافة الاستهلاك الجاهز وسيّاسة “المفتاح في اليد” وعقليّة الزّبون الذي لا يصنع مخْيطا ولا ينتج ثوْبا ولا يزرع أرضا ولا يخطّط لغذ..

هي دعوة لتحرير الإنسان من عبوديّة ريع البلد ومن ثقافة حيّازة ما يمكّنه من استيراد ما يريد من ضروريّ وحاجي ورفاهيّ وكماليّ.. ويكدّس ما لا يحتاج من فائض للتّباهي والتّبذير، لأنّ لهم خراجا يغطي كلّ ما تقع عليه أعينهم دونما حاجة إلى عمل ميداني؛ فهم رهائن المنتجين وأتباع صُنّاع الحياة وعبيد من “أسياد آخرين”، بل هم قطعان من الأنعام لا يكادون يفقهون قولا، وهم في المجتمع البشريّ مجرّد أرقام تستهلك الفكر والفنّ والغذاء والدّواء والكساء وتسدّد فاتورة ما تستهلك وتتلف الفائض دون أن يفكر عقل واحد منها في التحرّر من التّبعيّة أو في الأسباب المسخّرة لمن يزرع ويحصد ويخطّط وينتج ويصدّر.. ويملك رقابهم بتفوّقه العلميّ على من لا عقول لهم.

ذاك ما أراد ذو القرنيْن تعليمه لهؤلاء الأقوام المتخلّفين علميّا وحضاريّا ليدركوا أنّ الأسباب التي سخّرها الله له هي نفسها الأسباب المسخّرة لهم، ولكنّ الفرق بينه وبينهم يكمن في الفطنة واليقظة والّعور بالكينونة.. وهو الفرق بين الجدل والعمل وهو الفرق أيضا بين العامل والخامل أو بين سلوك عامل بما هو مسخّر له من موجود لاكتشاف المفقود وبين سلوك خامل متحسّر على ما هو موجود لعجزه عن فهمه وتوظيفه، وقد أمدّ الله الفريقيْن بعطاء متقارب: ((كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)) (الإسراء: 20).

الفرق واسع بين متحرّك بالأسباب متّبع لها وبين جاهل بجريان سننها فيه وفي الكون من حوله؛ فذو القرنيْن فقه سنن الأخذ بالأسباب ((وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، فَأَتْبَعَ سَبَبًا)) (الكهف: 84- 85). أمّا القاعدون عن الأخذ بالأسباب فمفتونون بما بين أيديهم من متاع على نحو يصير خراج الأرض لهم سلعة يبتاعون بها ما تشتهيه أهواؤُهم ولا يفكّرون في صناعة ولا في زراعة ولا حتّى في حرفة يدويّة. وذاك حال من كانوا قاطنين بين السدّيْن، فقد كانوا بحاجة إلى إقامة سدّ يحجز عنهم شرّ يأجوج ومأجوج فانتظروا حتّى أرسلت لهم الأقدار مهندسا معماريّا فهُرعوا يعرضون عليه أموالا تكافئ جهده ليردْم ما بينهم وبين أعدائهم. أيْ أنهم كانوا عاجزين عن ردْم ما بينهم بين أعدائهم: ((قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا)) (الكهف: 94). نظريّا هم عارفون بمخاطر عدوّهم وعالمون بالوسيلة التي تحدّ من خطره عليهم ولكنهم عمليّا عاجزون عن إنفاذ ما يعلمون، وتلك أزمة كلّ أمّة متخلّفة ومأزق كثير من الشّعوب التي آلفت استيراد مظاهر حضارتها.

فردّ عليهم ذو القرنيْن ما عرضوا عليه من خراج وعلّمهم فقها جديدا غاب عنهم فتخلّفوا عن صناعة الحياة بإسقاط نعمتيْ التّخطيط والإنجاز. فعلّمهم أنّ الحياة شراكة بين المتساكنين وتعاون بينهم وتضامن وتكافل طالما العدوّ واحدا والتّهديد مشتركا. وعلّمهم أنّ الحياة ليست مجرّد كنوز تجود بها الأقدار وتذهب بها الأزمات وتبدّدها الجوائح وتأكلها السّنون العجاف.. بل الحياة فكر وتدبّر وتخطيط وتوظيف للعقل الذي هو رأسمال الإنسان: ((قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ)) (الكهف: 95). العقل، والفكر، والإرادة، والأخذ بالأسباب.. هذا هو الدّرس البديع الذي على الأمم المستهلكة فقهه والعمل بمقتضاه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!