-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لا مملكة الرب ولا دولة ترامب

لا مملكة الرب ولا دولة ترامب
ح.م

ليس من المصادفة إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ما سماه “صفقة القرن” في هذا التوقيت بالذات، فهذه الصفقة المزعومة هي في الحقيقة استجابة لوهم يهودي قديم لم يجد الإسرائيليون بين الرؤساء الأمريكيين الذين تعاقبوا على البيت الأبيض من يمتلك الجرأة السياسية والكاريزما اللازمة لتجسيده في الواقع إلا في شخص دونالد ترامب، الذي صرح في خضم الحملة الانتخابية للرئاسيات الأمريكية السابقة بأن الإسرائيليين لن يجدوا أفضل منه لتحقيق حلمهم التوراتي في إقامة “مملكة الرب”، وبأن ترمب لن يجد أفضل من الإسرائيليين لتأييده وشد أزره حينما يقدم بعد وصوله إلى البيت الأبيض على اتخاذ قرارات حاسمة وجريئة لصالح إسرائيل قد تؤلب ضده التيارات السياسية المعارضة داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها وخاصة التيار الديمقراطي الذي يعد غريمه وخصمه السياسي التقليدي.

إن إعلان ترامب “صفقة القرن” في هذا التوقيت بالذات يحمل دلالات كثيرة، فهي أولا رسالة ود صريحة إلى اللوبي اليهودي الذي دعمه ويدعمه في كل مواقفه السياسية المثيرة للجدل، وهي ثانيا رسالة قوية لخصومه الديمقراطيين الذين يرافعون هذه الأيام في مجلس الشيوخ الأمريكي من أجل عزله أو على الأقل إقناع الناخبين الأمريكيين بعدم جدوى التمسك برئيس يضع الديمقراطية الأمريكية على المحك أو يعرضها للانتقادات الدولية أو يقحم الولايات المتحدة الأمريكية في صراعات دولية جديدة تزيد من متاعبها واهتزاز صورتها، وهي ثالثا رسالة إلى العالم العربي والإسلامي من أجل اختبار مدى رضاها وقبولها للرؤية الأمريكية الجديدة للصراع العربي الإسرائيلي، وهي رابعا رسالة إلى الداخل الأمريكي لتذكيرهم بالعلاقة التاريخية المتميزة بين أمريكا وإسرائيل والتي فترت أو اهتزت في الفترات الرئاسية السابقة بسبب نزوع القادة الأمريكيين نحو حلول سياسية تلفها كثير من المجاملة –كما قال ترمب- لقضية دينية بامتياز تعطي على حد زعمه، لإسرائيل الحق في استعادة سيادتها على أرض الميعاد وإقامة “مملكة الرب”.

إن التغريدات المتتالية التي يطلقها ترامب هذه الأيام تعد تحديا صارخا للضمير العربي والإسلامي وخرقا واضحا لكل القوانين الدولية فحسب، بل تعديا قبل هذا وذاك انحرافا سياسيا يحاول ترامب من خلاله أن يجعل من الأنا السياسي سلطانا على اليقينيات الدينية والحقائق التاريخية، إذ يتنكر لأهل الحق وينكر حقهم الديني والتاريخي ويقدِّمه على طبق من ذهب إلى شذاذ الآفاق، طلبا لودهم وإرضاء لأولهم وآخرهم.

كتب ترامب على صفحته على الفايسبوك عبارة مستفزة لمشاعر كل العرب والمسلمين في ظرف دولي دقيق يشهد نزالا وسجالا سياسيا عالميا غير مسبوق وسباقا محموما نحو القوة التي تنذر بعودة العالم إلى صراع الأقطاب الذي تغذيه سياسة المصالح المتبادلة التي لا يكترث أصحابها لكثرة ضحاياها من الشعوب المستضعفة والدول المغلوبة على أمرها. لقد كتب ترمب قائلا: “سأقف دائما مع دولة إسرائيل ومع الشعب اليهودي. أدعم بقوة سلامتهم وأمنهم وحقهم في العيش على أرضهم التاريخية. إنه زمن السلم”.

يتجاهل ترامب هنا الشعب الفلسطيني، صاحب الحق وصاحب الأرض، ويحتفي في المقابل بشعب يهودي عاش هائما على وجهه في العالم القديم والحديث بعد أن ثبُت عدم استحقاقه للتفضيل الإلهي بتمرده على شرائع السماء التي أتبعها في العصر الحاضر بتمرده على قوانين الأرض وتماديه في سياسة الضيم والضم التي يريد ترمب أن يتوِّجها قبل انتهاء عهدته الرئاسية بإعلان دولة يهودية عاصمتها القدس وعلى جزء منها دويلة فلسطينية لا تتجاوز غزة و70 بالمائة من الضفة الغربية.

أعلم كما يعلم كثيرون بناءً على الوثائق الدينية والتاريخية وبناء على المقاربات الجيوسياسية بأن صفقة القرن لا حدث وبأنها ستنتهي سريعا حتى قبل انتهاء عهدة ترامب الرئاسية وبأنها ستزيد من متاعبه السياسية وستقنع من لم يقتنع بعد من أنصاره السياسيين بأنه يصلح لإدارة المال ولكنه لا يصلح للسياسة وبأن صفقة القرن التي وضعها ليس حلا بل تأجيجا للصراع العربي الإسرائيلي. يبدو أن ترامب لم يستوعب الدرس العالمي بعد الحصاد النكد لقراره القاضي بالاعتراف بالقدس اليهودية عاصمة لإسرائيل إذ لم يكسب في صفه إلا عددا لا يكاد يذكر من الدول التي اقتنعت بفكرة نقل سفاراتها من تل أبيب إلى القدس طلبا لود أمريكا أو طمعا في مكاسب اقتصادية أو دفعا لضائقة مالية.

إن صفقة القرن موقفٌ سياسي غير متوازن يدل على من أوحى إلى ترامب بهذه الفكرة إما أنه جاهل بحقائق التاريخ أو أنه يتعمد القفز على هذه الحقائق، ومن هذه الحقائق التاريخية أن “مملكة الرب” التي يحلم بها الإسرائيليون لم تقم لها قائمة في الماضي ولن تقوم لها قائمة في المستقبل، فقد عاش الشعب اليهودي تحت رحمة الأنظمة التي حكمته وهو شعب يؤكد حتى وهو تحت سلطة الآخرين بأنه شعب صلب الرقبة، متغير المزاج لا يصلح أن يقود ولا يصلح أن يقاد، فمن زمان نفيهم على يد نبوخذ نصر إلى هذا العصر لم يفلح اليهود في إقامة دولة فوجدوا في دولة ترمب ما يعوضهم ويسرّي عنهم ويُحيي في نفوسهم حلما توراتيا قديما.

لن أذهب بعيدا في الحديث عن قصة الإسرائيليين مع الوعد الإلهي بإقامة “مملكة الرب” المزعومة، فبشأن هذه المسألة تفاصيل كثيرة ليس هذا مجال الخوض فيها وسأكتفي بذكر بعض الحقائق التي تكشفها الوثائق اليهودية نفسها بأن ما يسمى “مملكة الرب” التي ستقام على الأرض الموعودة ليست إلا رواية يهودية مطعون في سندها ومتنها على سواء، وبأن اليهود سيُساقون إلى حتفهم وسيواجهون نهايتهم المحتومة من غير أن يتذوقوا لذة العيش ولو أياما معدودة في هذه المملكة الوهمية التي اختلقها الأحبار والرهبان ونقلها الكبار إلى الصغار.

نشر ترامب صورة لخريطة إسرائيل وفلسطين المستقبلية كما يتوقعها بعد وضع ما سماه “صفقة القرن” موضع التنفيذ، فهذه الخريطة التي غرد بها ترمب تظهر الضفة الغربية وقطاع غزة قطعتين صغيرتين موصولتين بنفق ومطوقتين بعدد معتبر من المستوطنات الإسرائيلية. إن الضالعين من السياسة والعارفين بالحقائق والمطلعين على الوثائق يعلمون بأن خريطة ترامب ليس إلا إحياء للخريطة التي اقترحها إيهود أولمرت من قبل والتي تقضي بـ”تنازل” إسرائيل عن أجزاء كبيرة من الضفة الغربية وانسحابها كذلك من الأحياء العربية في القدس الشرقية ووضع منطقة “الهيكل” والمدينة القديمة تحت الوصاية الدولية.

مما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق هو أن منطق “التنازل” الذي يرد في خطاب بعض الساسة الأمريكيين والإسرائيليين يؤكد -بما لا يدع مجالا للشك- الرؤية المتحيزة التي تجعل إسرائيل طرفا سائدا متنازِلا (بكسر الزاي) وتجعل فلسطين طرفا مسودا متنازَلا له، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن مجموع “التنازلات” الإسرائيلية المزعومة لا تساوي شيئا؛ فمساحة الضفة الغربية ومعها قطاع غزة ستة آلاف متر مربع أو تزيد عليها شيئا قليلا أي بحجم ولاية، فأين هذه المساحة من مساحة ما يسمى “إسرائيل” التي تزيد عليها أضعافا مضاعفة؟ كما أن مقترح انسحاب “إسرائيل” من الأحياء العربية في القدس الشرقية إنما هو استخفافٌ بالعقل وتلهية وتسلية للراضين من العرب بأنصاف أنصاف الحلول والذي يتناقض مع المطالب العربية بدولة فلسطينية كاملة السيادة على حدود 67 وبالقدس الشرقية كاملة غير منقوصة عاصمة لها، وأما مقترح وضع ما يسمى منطقة “الهيكل” ومعها المدينة القديمة تحت الوصاية الدولية فالغرض منه رفض الإشراف الفلسطيني على المقدسات الإسلامية والمسيحية وهذا انتقاص من السيادة الفلسطينية وعملية فصل إسرائيلي عنصري بين فلسطين الدولة وفلسطين الدين والتاريخ.

إن “صفقة القرن” لا تواجَه بالثرثرة الإعلامية وعبارات الشجب والاستنكار التي تنتقد طريقة الجلد وتنسى أو تتناسى قسوة الجلاد، أو يمعن أصحابُها في انتقاد الطرف العربي ويغفلون عن عدونا وعدوهم الحقيقي المتمثل في الاحتلال الإسرائيلي.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!