-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لغتنا الجميلة… ولغاتهم الهجينة

لغتنا الجميلة… ولغاتهم الهجينة

بسم الله الرحمن الرحيمدمعة حارة، أسكبها، على فقيد الأدب العربي، شعراً ونثراً، فاروق شوشة، الذي ألهمني عنوان هذه الافتتاحية.

ودمعة حارة أخرى، أسكبها، على فقيد اللغة العربية في الجزائر، محمد فارح، نحواً وصرفاً، أداء ومضموناً، هذا الذي تذكرته، بهذه المناسبة، والطيب بالطيب يذكر.

فقد عرفت الفارسَين، في المضمار اللغوي، فرسما في ذاكرتي جهود الإحياء، بحسن الأداء، واحد بوسمه، وآخر برسمه.

كان فاروق شوشة الشاعر المصري المتألق يطل علينا، لسنوات عديدة، من إذاعة القاهرة بصوته الذائع، وبرنامجه الرائع “لغتنا الجميلة”، ينتقي فيه أجمل النصوص، ويجلي فيه أغلى الفصوص.

وكان محمد فارح المثقف الجزائري الصديق، والمحقق اللغوي الدقيق، يطل علينا كل صباح من إذاعة الجزائر، بصوته الرقيق وبرنامجه العريق “لغتنا الجميلة”، يجلي فيه القواعد اللغوية الصحيحة، ويبرز لنا المثال للعربية الفصيحة.

ورحل عنا منذ سنوات الصديق محمد فارح، فترك فراغاً ثقافياً في ميدانه، لا يسد، ومصاباً لغويا، في العربية لا يحد. وهاهو –اليوم- فاروق شوشة، يرحل عنا، فتظلم الساحة الأدبية بغيابه، ويفقر الشعر الجميل، بطي كتابه.

عرفتُ محمد فارح، عندما كان زميل دربي في معهد عبد الحميد بن باديس، بقسنطينة في الخمسينات، ننهل من معين علم جمعية العلماء الصافي، ثم طوحت بنا الأقدار، فاجتمعنا  من جديد، في ساحة العمل الإسلامي، بملتقيات الفكر الإسلامي، والمجلس الإسلامي الأعلى، والمجال الثقافي الإعلامي بوجه عام، فطبعنا، الوفاء للعلماء، والثبات على الثوابت، وعندها اكتشفت في محمد فارح، هذه الموهبة اللغوية الخلاّقة، فكنا نتخذه مرجعاً للفصاحة العربية والأناقة. وتواصل عطاؤه، يدقق ويعمق، في الإعلام المكتوب والمسموع، إلى أن غيّبه الموت عنا، ملبيا نداء ربه، فرحمه الله، وأنزل عليه شآبيب رحمته، بما قدم، للجزائر، وللإسلام، وللعربية.

وعرفت الشاعر المصري فاروق شوشة، أول مرة، من خلال مجلة الآداب اللبنانية، إبان الثورة الجزائرية، حيث كان المرحوم الصحفي اللامع لجريدة البصائر، الشيخ عبد الرحمن غريب يسرّب إلي مجلة الآداب اللبنانية، ولا أعرف كيف كان يحصل عليها، مقابل دفع ثمنها، كانت الآداب ملتزمة بقضية الجزائر، التزاماً كاملاً، تخصص ملفات لها، كملف عن جميلة بوحيرد، وملف عن الأدب في المغرب العربي، إلى جانب القصص، والقصائد عن الجزائر للشعراء العرب.

ففي الآداب اللبنانية عرفت أسماء شعراء بارزين كنزار قباني، عبد الفتاح صبور، ومحمد الفينوري، وعبد الوهاب البياتي، وغيرهم، ومنهم فاروق شوشة.

ثم توالت علاقتي، بالشاعر فاروق شوشة بعد الاستقلال الوطني، فكنت ألتقي به في القاهرة مع الصديق العزيز الدكتور محمود الربيعي في مناسبات عديدة، وحدث أن استضافني فاروق شوشة في برنامجه بتلفزيون القاهرة في موضوع: الفلسفة ورجل الشارع، فاكتشفت فيه التجسيد الحقيقي للغتنا الجميلة، من حيث التجديد الأسلوبي، والحبكة اللغوية في الأداء، والذكاء في استنباط الأسئلة للحوار، وكلها عوامل مهمة في إنجاح البرنامج التلفزيوني على الخصوص، ثم التقيت به من جديد مع الدكتور محمود الربيعي في مجمع اللغة العربية، فوجدته ثابتاً على نفس الأناقة اللغوية، والرشاقة الأدبية.

وإذ يرحل عنا –اليوم- الشاعر فاروق شوشة، فإنه يترك ثلمة لا تسد، وفراغاً لا يعد، رحمه الله وأسكنه الجنة.

يرحل عنا مثل هؤلاء الفوارس، ولغتنا العربية تحوّلت من لغة جميلة، إلى لغة كليلة، ومن لغة مرصعة، إلى لغة مرقعة، يحدث هذا على الخصوص في جزائرنا الحبيبة، حيث سطا على العربية، باسم الحداثة والتقدمية، وباسم الجزأرة والأمازيغية، إدخال العامية والنشاز من الكلمات الأجنبية، فصارت لغتنا مرقعة، كثوب ضم سبعين رقعة، مشتتة الألوان مختلفات.

إن الجزائري الغيور على وطنه، وعلى لغته، ليشعر بالخجل، عندما يستمع إلى من يتحدثون من أبنائنا، ومواطنينا، في وسائل الإعلام، فيقدمون صورة قبيحة عن الهجانة التي أصابت لغتنا، واللوثة التي ابتليت بها لهجتنا، فلا هي عربيةُ تعلَم، ولا هي جزائرية تُفهم، كما جنى على عربيتنا، حشوُها بألفاظ نابية، غريبة، مريبة، فشوهت وجهها الجميل، وقبّحت صوتها النبيل.

إن الجزائري الغيور على وطنه، وعلى لغته، ليشعر بالخجل، عندما يستمع إلى من يتحدثون من أبنائنا، ومواطنينا، في وسائل الإعلام، فيقدمون صورة قبيحة عن الهجانة التي أصابت لغتنا، واللوثة التي ابتليت بها لهجتنا، فلا هي عربيةُ تعلَم، ولا هي جزائرية تفهم، كما جنى على عربيتنا، حشوها، بألفاظ نابية، غريبة، مريبة، فشوّهت وجهها الجميل، وقبحت صوتها النبيل.

إن هذه اللغات الهجينة، هي التي نصطدم بها في شوارعنا في أسواقنا، وعلى واجهات محلاتنا، وفي ألسنة أبنائنا، وبناتنا، فحكمت علينا بالردة، وسلبتنا كل معاني الجدّة، وجعلت لغتنا، كالمرآة في فترة العدة.

خلا الميدان –إذن- من الفرسان، وأصبح مجالا لنعيق الغربان، وعبدة الشيطان، من الإنس والجان، ولا طبيب ناجع، ولا حاكم رادع، فأضحى التراث بين سائب وضائع.

إن الأمل معقود على جمعية العلماء، ومنهجها التربوي، في إصلاح ما اعوج، لإسكات كل من نعق وارتج، أو احتج. فقد وضع الماهدون من علمائنا، قواعد للغتنا الجميلة بالبيان والعرفان، وأسس لمضامينها بالحجة والبرهان، فإذا دهى لغتنا ما دهاها، من هجانة وترقيع فإننا حكاما ومحكومين، مطالبون بإبعاد لغتنا من هذا الواقع المتردي الذي آلت إليه في أشعارنا وإشهارنا، وفي ألسنتنا وأدمغتنا، وفي مجلاتنا، ومحلاتنا، حتى تعود إلى مبدئها الأصيل، لغة جميلة، جليلة، لا حزينة أو هجينة.. فإن لم تحقق ذلك –ونحن عصبة- إنّا –إذن- لخاسرون.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!