للشباب سلطتهم أيضا!
حاولت التوقف عن الكتابة في الشأن الشبابي والاجتماعي عندنا والعودة إلى المواضيع الرياضية كعادتي، لكنني وجدت نفسي مرغما على الخوض في نفس الموضوع على الصفحات الرياضية لجريدة كل الجزائريين بسبب تداعيات ما يحدث في تونس وانعكاساته علينا جميعا.
-
وبسبب توقف مباريات البطولة عندنا واقتصار الحديث في بلد بحجم الجزائر على من سيكون مساعدا أو مستشارا لبن شيخة، وعن الملعب الذي سيحتضن المباراة المقبلة أمام المغرب، وكأن الأمر يهم كل الجزائريين ويشغل بالهم ولا ينامون بسببه، فوجدتُ نفسي أترّفع عن هذه الأمور التي لا تهم القارئ والمتتبع الجزائري الذي صار أكثر وعيا وتبصرا وحكمة، وبلغ حدَّ إعادة النظر في الموازين والمفاهيم التي نعرفها إلى غاية اليوم حول تصنيف وترتيب السلطات في مجتمعاتنا، وتأثير الوسائط الإعلامية على شبابنا، مع تقلص دور الإعلام بمفهومه التقليدي ومكوّناته المعروفة من تلفزيون وإذاعة وصحف لصالح تكنولوجيات التواصل الحديثة..
-
الجميع كان يعرف لغاية اليوم أن الإعلام هو السلطة الرابعة في المجتمع بعد السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، ولكن الوسائط الإعلامية الحديثة منحت الشباب التونسي وشباب العالم سلطة لا تقل شأنا عن كل السلطات، بفضل الاستعمال المتميز والشامل للمواقع الإلكترونية والمدوّنات وصحف الفيس بوك واليوتوب وكل الشبكة الاجتماعية الحديثة للتواصل والتجنيد وتبادل الأخبار والصور، رغم الحظر المفروض على الإعلام والتكنولوجيات الحديثة للتواصل في تونس، فكان الممنوع مرغوبا وبفضل الممنوع حقق التونسيون ما كانوا يرغبون فيه. ولكن غياب المشروع البديل والنخبة الرائدة قد يفسد العرس ويرهن المكتسبات، وهو ما يقودنا إلى استخلاص الدروس في الجزائر التي اكتوت بنيران الفوضى والعنف والفراغ السياسي مرارا، وبرهن أبناؤها أن لديهم وعيا وتبصرا كبيريْن يجب استحضارهما والاستثمار فيهما قبل فوات الأوان.
-
تكنولوجيات الاتصال الحديثة وسائل كانت تبدو بلا معنى، وتحولت إلى أدوات للتواصل والتعبير السياسي والتجنيد الاجتماعي بين الشباب في تونس والجزائر والعالم بأسره، ولم يعد الغلق وتضييق الحريات يجدي نفعا أمام جيل يرغب في كل ما هو ممنوع.. جيل لم يعد له ما يخسره عندما وصل إلى درجة الانتحار بإحراق النفس كوسيلة جديدة للتعبير، بعدما وجد وسائل الإعلام الثقيلة والبلديات والولايات والوزارات مغلقة في وجهه، فراح يكتشف قدراته ويتحاور ويتبادل الأفكار والأخبار بطرق سهلة سريعة وحديثة لا تقل تأثيرا ومفعولا؛ أطاحت بالنظام التونسي ولا تزال تصنع الرأي العام في تونس في غياب البدائل.
-
صحيح أن التجربة التونسية فريدة من نوعها، ومعطياتها ومسبباتها تختلف عن ظروفنا وخصوصياتنا، والمحن التي عشناها علمتنا كثيرا وتغنينا عن حرق أجسادنا وتدمير مكتسباتنا، ولكن وعي أبنائنا لوحده لن يكفي للتصدي للموجة والموضة الجديدة، بل يجب تعزيزه بالمزيد من الحريات والقليل من الغلق، والمزيد من الاستثمارات لتعليم أبنائنا وتكوينهم وتثقيفهم وتوظيفهم وإسكانهم والترفيه عنهم وحمايتهم من كل الآفات.
-
لقد حان الوقت للتعامل معهم كسلطة جديدة ليس لها لون سياسي، سلطة متحررة من كل العقد ومنفتحة على التكنولوجيات الحديثة للاتصال والتواصل التي زادتها قوة وتأثيرا، ونتعامل معها كقوة فعالة خاضت ثورات ومعارك نجحت فيها قبل الثورة الإعلامية الحديثة، أثناء ثورة التحرير ثم ثورة التشييد، وأثناء انتفاضة أكتوبر ومحنة سنوات التسعينيات، وحين استجابت لنداءات الوئام والمصالحة، وخلال كل الكوارث والمواعيد الكبرى التي شهدتها الجزائر على مدى السنوات العشرين الماضية، ونتعامل معها كشريحة واعية ومسؤولة خرجت متذمرة إلى الشوارع مطلع هذه السنة، وعادت إلى رشدها لأنها أدركت أن الجزائر أهم من الزيت والسكر والوظيفة والسكن، وأدركت أن تجاربنا المُرة التي خضناها تغنينا عن العنف والنهب والتكسير وعن الانتحار حرقا، لأن المستقبل لا محالة لهؤلاء الشباب.. طال الزمن أو قصر.
-
أبناؤنا صاروا يعيشون داخل قرية بفضل التكنولوجيات الحديثة للاتصال، وصاروا يعرفون أشياء كثيرة ويعرفون ما يحدث في الجزائر وباقي دول العالم كل دقيقة، وسلطتهم المعنوية علينا يجب أن نقر بها ونقدرها حق قدرها، ونتفاعل معها بالإصغاء والحوار قبل الاستجابة أو التوجيه، خاصة أنهم أوقفوا احتجاجاتهم الأخيرة بمحض إرادتهم بفضل تواصلهم المستمر عن طريق الفيس بوك واليوتوب والمواقع الإلكترونية بعدما سدت في وجوههم قنوات الاتصال التقليدية وضاقت صدورهم بكثرة المتاعب والمشاكل.
-
وعندما ندعوا السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية إلى المزيد من الاهتمام بالإنسان الجزائري وتأطيره وتكوينه والإصغاء إليه وإتاحة الفرصة للجميع دون إقصاء، فإننا نجدد أيضا نداءنا للشباب كسلطة أخرى بضرورة التحلي بالحكمة لأننا ضحينا بالغالي والنفيس من خيرة أبنائنا، وإذا اقتضت الضرورة أن نضحي بعرقنا ودمائنا فسنفعل ذلك دون انتحار وحرق أو عنف وتدمير، ودون إساءة بعضنا لبعض. كما ندعوا الإعلام التقليدي للعودة إلى ممارسة مهامه الأساسية، بعيدا عن التضليل والتزييف والتهويل والتطبيل وتقديس الأشخاص، ليستعيد مركزه وسلطته ويعود كل طرف إلى القيام بواجباته نحو الوطن قبل فوات الأوان..