-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لماذا خذلتم غزة يا حكام العرب؟

لماذا خذلتم غزة يا حكام العرب؟

بقدر ما نحن متفائلون، بل واثقون من النصر القادم، عاجلا أو آجلا، على يد المقاومة الفلسطينية المباركة، مهما اشتدت الآلام العابرة وارتفعت حصيلة شهدائنا فوق أرض الرباط، فإنَّنا مصدومون في الآن نفسه من حجم الخذلان العربي والإسلامي الرسمي.
لقد كان مفهومًا عدم جرأة الدول العربية على دعم التحرر الفلسطيني بشكل مباشر، خاصة خلال العقود الأخيرة، التي انتهى فيها النظام العربي الإقليمي إلى الشتات والجمود، بل التضاد والتناحر، لكن ما توقّع أحدٌ أن يصل الهوان بالأمة إلى ما تعيشه اليوم غزة الصامدة، والقضية المركزية من ورائها، من تحديات وجودية، بينما يعجز حكامُها عن توفير الحماية للشعب الفلسطيني في أبسط مقومات الحياة الإنسانية.
ظلت الأنظمة العربية الشمولية، منذ الستينيات، تبرّر مشروعيتها السياسية، على الأقل، بتبنّي القضية الفلسطينية، باعتبارها صراعًا قوميّا مع الكيان الصهيوني والامبريالية العالمية، طمعًا في أن يشفع لها موقفها الداعم للتحرر في تعثر الإنجاز التنموي والديمقراطي، أما حكام الأمة الجدد، إلاّ القلة القليلة جدا منهم، فقد تخلّوا عن الحقوق العربية في فلسطين، مُؤثرين التطبيع العلني والسرّي مع العدوّ الصهيوني، مقابل مصالح قُطريّة ضيقة، وفي كثير من الأحيان من دون أي منافع وطنية، بل لحسابات سلطويّة شخصيّة، تتعلق بصيانة العروش “الجُملكيّة” الهاوية.
ولا غرابة في ذلك، فقد كان كرسيُّ الحكم على مر التاريخ جسرًا ميسَّرًا لعقد صفقات الخيانة، عندما يفتقد أصحابه إلى شرعية شعبية تمنحهم الحصانة، بل وصل بنا الأمر إلى صناعة نُظم عربية وظيفيّة في خدمة المشروع الصهيوني بشكل سافر، تلقى دوله كل الرعاية الأمميّة، لتكون قطبًا اقتصاديًّا وماليًّا وسياحيًّا، يُراد تسويقه في صورة نموذج عصري للتطور والحداثة العربية، بينما هو في واقع الحال مجرّد مَجمع صهيوني مُقنّع لرجال الأعمال اليهود عبر العالم، ومحطة عبور لتبييض الأموال الوسخة، ووكر حاقد لهندسة المؤامرات في حق الأشقاء بالمنطقة.
سيكتب التاريخ بمداد الوجع، وستذكر الأجيال العربية المسلمة أن قادتها المختالة بكل ألقاب الجاه والأبّهة، وجيوشها المرابطة في الداخل لقمع الشعوب المغلوبة على أمرها، وجحافلها الدبلوماسية الموزعة على أصقاع الدنيا، لم تفعل شيئًا ذا بال لنصرة فلسطين عندما استباح الاحتلال الإسرائيلي أهل غزة، بانتهاك فظيع لكل الشرائع والقوانين والأعراف الدولية والبشرية في إدارة الحروب.
يا حكام العرب والمسلمين: ستلعنكم الأجيال، إلاّ الشرفاء منكم، وتتبوّل على قبوركم إذا صرتم نسيًّا منسيًّا، لأنكم فرَّطتم في مقدسات الأمة وتركتم الأشقاء فريسة فريدة للعدو الباطش، فضيَّعتم الأمانة المناطة بكم، وحكمتم فقط لأجل مزايا السلطة الزائلة، من دون تسجيل مواقف مشرفة تخلّد ذكراكم الحسن في الغابرين، بل إنّ كثيرا منكم وقف ضد المقاومة الباسلة بذرائع مختلفة وآخرين باعوا ذمتهم للشيطان الأكبر.
إذا لم تحرّك فيكم تلكم الصورُ المروّعة لغطرسة الجيش الصهيوني في غزة الضميرَ القومي والإسلامي والإنساني والأخلاقي على الأقلّ، لتنتفضوا على قلب أمة واحدة، فأيّ نخوة وشرف ورجولة بقيت فيكم؟
لا يقولنّ أحدٌ إنّه ليس في وسع الدول العربية كبح العدوان الصهيوني في غزة، ومن غير الممكن الدخول في حرب عسكرية شاملة بالمنطقة، لأنّ ذلك ممكنٌ أوَّلاً لو تحلّى زعماؤها بالشجاعة والمسؤولية والكرامة، وثانيًا حتى لو سلمنا بهذا المنطق الانهزامي، تبقى هناك أوراقٌ كثيرة بإمكان العرب أن يلعبوها لولا ارتهان الأنظمة لمراكز القوى الغربيّة، ما أفقدها سيادة القرار الوطني.
هل يعجز العرب فعليّا عن منع استخدام القواعد العسكريّة الأمريكية لتزويد جيش الاحتلال بالذخيرة وتجميد العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بالنسبة للمطبِّعين مع الكيان والتهديد باستخدام النفط ومنع الطيران المدني الصهيوني في المجال الجوي العربي وتشكيل لجنة وزارية عربية لوقف العدوان على غزة؟ وهي مجموعة المقترحات التي سقطت من قرارات “القمة العربية الإسلامية” الأخيرة؟
ألم تكن عملية “طوفان الأقصى” الفرصة المواتية للأنظمة العربية، لو كانت معبِّرة بصدق عن تطلُّعات الأمة، لابتزاز الكيان الإسرائيلي والغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، بالانخراط الجادّ في إعادة بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب، من خلال تعزيز التقارب الاقتصادي والاستراتيجي مع القوى الصاعدة، حتى تدرك الإمبرياليّة الاستعمارية أن تحيّزها المفرط للكيان الصهيوني مضرٌّ بمصالحها العليا في المنطقة، وأنّ تحقيق الاستقرار والسلام لن يتحقق إلَّا عبر تسوية منصفة للقضية الفلسطينية، لكنهم عوض اقتناص اللحظة التاريخية، التي قدّمتها لهم المقاومة المحاربة نيابة عن كل الأمة المغيّبة، راحوا يصطفُّون مع الجلاد ضدّ الضحيّة في مشهد بالغ اللؤم والنذالة.
وسط هذا الترهّل العربي غير المسبوق في الدفاع عن فلسطين، يحقّ لنا الافتخار بموقف الدولة الجزائرية الدبلوماسي الصادح في كل الأرجاء، وسلوكها السياسي العملي المتقدم في نصرة المقاومة، ولكن علينا الإدراك سلفًا أنّ الاصطفاف بكل ثقلنا في مقارعة الجبروت الصهيوني العالمي لن يكون من دون أثمان مكلّفة.
قد يعلم الكثيرون أن الجزائر تدفعها منذ سنوات، ومستعدون أكثر من أي وقت مضى لتحمل كل التبعات، من أجل الانسجام مع قيمنا الوطنية وثوابتنا النوفمبرية في نصرة المضطهَد، فكيف إن كان شقيقًا في الدم والدين؟ ومؤازرة حركات التحرر، لأن الحرية قيمة نفيسة لا يقدرها حق قدرها إلا من سقى شجرتها بدمائه الزاكيات.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!