-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لماذا يخاف الأديب العربي من كتابة سيرته الذاتية؟

أمين الزاوي
  • 5944
  • 10
لماذا يخاف الأديب العربي من كتابة سيرته الذاتية؟

لا أقصد هنا بـ “السيرة الذاتية” تلك الظلال الباهتة أو بعض تلك الهوامش التي تتسلل إلى النص الروائي لتلتصق بجلد بعض الشخوص الروائية المتخيلة هنا أو هناك بشكل غامض أو مشوه أو محور، هوامش مأخوذة من حياة الكاتب أو مستوحاة منها، بل ما أرمي إليه هو فن “السيرة الذاتية” بكل ما تحمله من أسرار حياة الكاتب ما خفي منها وما عرف، بل إن ما يثير وما يشد في “السيرة الذاتية” هو ما لم تكشفه الأيام من حياة الكاتب، خاصة إذا كان هذا الأديب اسما مكرسا كرمز في المجتمع. تجيء السيرة الذاتية عادة، في الآداب العالمية، بأمانتها وصدقها لتقول تفاصيل أخرى في حياة الكاتب الأديب لتهز وتخلخل ما يكون قد أصبح مقدسا أو ثابتا لدى القراء، السيرة الذاتية الصادقة هي تكسير القناعات التي كرستها رسميات الحياة الاجتماعية والسياسية والمهنية بكل ما فيها من لهث وزيف وطموحات مشروعة أو كاذبة.

الكتاب الجزائريون والمغاربيون والعرب بشكل عام يخافون من كتابة سيرهم الذاتية، يخاف الكاتب العربي من رؤية وجهه الحقيقي في المرآة، لأن المرأة تعيد إليه ملامحه الحقيقية بما فيها من قبح وجمال إن وُجِد. بمجرد أن يكرس المجتمع ملامح ومعالم صورة صنمية للكاتب، فإن هذا الأخير يفقد كل جرأة في محاولة تكسيرها برواية تفاصيل حياتية قد تكون متعارضة مع ما هو معروف عن الروائي اجتماعيا وسياسيا.

إن فقدان كتب السيرة الذاتية في مجتمع ثقافي ما، وأقصد هنا المجتمع المغاربي والعربي، وغياب الكتابة السيروية في الحقل الأدبي يدل على هيمنة ثقافة الخوف من “الحقيقة” وفي الوقت نفسه هي دلالة على تفشي ثقافة “النفاق” التي تصادر “حرية القول” الفردي أو على الأقل لا تستسيغها.

إن إيديولوجية “الحشمة” أو “السترة” التي تحاصر الكاتب العربي وتمارس عليه نوعا من القمع الأخلاقي الاجتماعي والديني تكبح فيه رغبة الذهاب في قراءة الذات وروايتها في مداها البعيد الصادق القريب من الحقيقة، الحقيقة نسبية دائما. إن المجتمع الذي تهيمن عليه هذه الأيديولوجيا هو مجتمع “كومينوتير” (قطيعي) (من قطيع)، لا يعترف بصوت “الفرد” بل يريده أن يكون دائما صدى لـ “صوت الجماعة” أو قطعة في البيزل تُكمِّل ولا تتميز لوحدها، وبالتالي فهو مجتمع ثقافي وسياسي واجتماعي غير مؤهل لقبول جرأة كتابة السير الذاتية التي هي مرآة لتجارب الذات في انكساراتها، بهجتها، تعبها، شقائها، أخطائها، نجاحاتها، صدقها، خيانتها، ضعفها، قوتها، تخاذلها، شجاعتها، جبنها، ترددها، تهورها…

انطلاقا من هذا الوضع السوسيو – ثقافي لم يتجرأ كبار كتابنا من الرواد كما من الجيل ما بعد الرواد، على اختلاف لغة الكتابة لديهم عربية كانت أم فرنسية، أن يكتبوا سيرهم الذاتية من أمثال محمد ديب ومولود معمري وكاتب ياسين وعبد الحميد بن هدوقة ومالك حداد ومفدي زكريا والأخضر السائحي والحبيب السائح ومحمد مفلاح والشريف الأدرع وبشير خلف ومرزاق بقطاش غيرهم.. أتحدث هنا عن الأدباء، يجب الإشارة هنا وفي هذا المقام إلى أن الأديبة زهور ونيسي وكذا الطاهر وطار وعبد المالك مرتاض قد كتبوا سيرهم الذاتية.

إن كتابة السيرة الذاتية ليست مرتبطة بتقدم العمر ولا هي إعلان عن الاقتراب من الشيخوخة بل هي الوقوف على حياة الكاتب في مرحلة معينة والتحديق فيها وقولها القول الصادق، لقد كتب هنري ميلر سيرته الذاتية في كثير من كتبه دون أن يختفي وراء التخييل أو التمويه، كما فعل ذلك طه حسين في الأيام التي تعاني اليوم من “مقص” الرقابة بعد قرابة القرن من صدورها، ومثله فعل أيضا الروائي المغربي محمد شكري في روايته “الخبز الحافي” التي كتبها في أول عهده بالكتابة وقد نشرت مترجمة إلى الإنجليزية الأمريكية ثم إلى الفرنسية لتنشر لاحقا باللغة العربية لغتها الأصلية وبصورة سرية وتلاحق بالطرد والمحاكمة في دول عربية كثيرة.

في مجتمع تهيمن عليه عقلية “القطيع” وثقافة “القطيع” وهي ثقافة وعقلية من مهمتهما، ولو بصورة لاواعية، محاربة “الذات” و”الفردية” و”الفردانية” التي عليها تتأسس كتابة السيرة الذاتية، أمام هذه الحال فكل كاتب يعيش في هذا المجتمع بجمعانيته فهو حيال “الكتابة السيروية” بين أمرين إما:

.

أولا: أن يسكت فلا يكتب شيئا من ذلك وبشكل مباشر يقول فيه بأن هذا الذي يقرأه القارئ هو سيرته الذاتية، يسكت كما فعل الكبار في الأدب الجزائري والمغاربي والعربي لأن الكتابة السيروية ربما ستوقظ الفتنة النائمة، وبالتالي ستكسر الصورة المجتمعية التي يستهلكها المجتمع الثقافي والاجتماعي عن كاتب ما.

من هنا أيضا يهرب البعض من الكتاب من مواجهة القارئ بكتابة سيروية مباشرة والاكتفاء بشحن بعض الشخصيات في رواياتهم بملامح “الذات” لكن بكثير من المسافة وكثير من الغموض وكثير من اللف والدوران المؤسس على وضع رتوش كثيرة ومراوغة على الصورة الاجتماعية لـ “الأنا”، وبالتالي خيانة السيرة الذاتية، التي هي في نهاية المطاف خيانة التاريخ في شموليته.

 .

ثانيا: أن يكتب فيمارس خيانة الذات، خيانة المرآة، خيانة اللغة، وبالتالي خيانة المجتمع والتاريخ، فتتحول كتابة السيرة الذاتية للأديب الذي يفترض فيه حساسية خاصة وشعرية عالية إلى ما يشبه مذكرات السياسيين أو الجنرالات المتقاعدين الذي يصورون أنفسهم وكأنما قدّوا من “لحم” الملائكة. فهم ولدوا أسوياء، وترعرعوا في أسر سوية، ولهم أجداد وجدات وعمات وخالات وجيران وإخوة وأخوات، الجميع في أتم الانضباط والنظافة الاجتماعية والأسرية والدينية والمهنية، وأنهم درسوا بشكل نظامي أو إنهم عصاميون، وأنهم تولوا مناصب فكانوا أحسن من غيرهم، أفضل من الذين سبقوهم والذين جاؤوا من بعدهم والذين سيجيئون من بعد الذين جاؤوا من بعدهم، فهم من طينة لا مثيل لها.

فلسفيا، أعتقد بأن مجتمعا ثقافيا يؤمن بثقافة “التوبة” بمفهومها الديني ولا يعترف بفلسفة “الاعتراف” هو مجتمع ثقافي يبحث عن “الطهارة” الخارجية ويبحث أيضا عن “غسيل للماضي” الذاتي وعدم المرور عليه أو فيه أو الحديث عنه بكل جروحه وأفراحه وأخطائه، بالتالي فهو مجتمع ثقافي وأدبي غير متصالح وغير متسامح مع فن السيرة الذاتية الصادقة في شيطانيتها وملائكيتها. 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
10
  • العربي كحل الراس

    السؤال الذي يجب أن نطرحه : ماذا يقدم هؤلاء في حياتهم للمجتمع ثم ما الفائدة من سيرتهم؟ هم مثل الممثلين والمغنيين يتقاضون الملايير من اجل تفاهات وخزعبلت يسمونها ادبا فنا او رياضة في حين يشقى غيرهم من الفلاحين ليعيش كل من في الارض. افذهبوا الى الجحيم ايها المغنون والادباء والفنانون

  • tika

    mada an riwayat tawk alyasamin li wasini laraj

  • صمادي سفيان

    ما أحبه في الكاتب أمين الزاوي الجديد , كل مقالاته توحي بإهتمامه الشخصي لمواضيع لا تخطر على بال أحد , مواضيع آنية مبنية على الواقع توقعنا في حرج شديد جراء حال المثقف إن كان حقا كذالك أم كأنه هو , للكاتب رغبات و طموح توحي بكثرة المطالعة و إنتهاله من كل الكؤوس ,رحيق يحب أن يشاركه فيه المحبين لتستنير به الأبصار و تطمئن له النفوس على أن السلعة غالية لكنها لكم دون المقابل هكذا يمكنني أن أعرف سيرتك الذاتية تحب التاريخ الأثار و اللغات و ترغب في منتدى الكتاب و الشعراء و تحب كل ما هو طبيعي جمالا و فنا

  • كوكو

    كتابة السيرة الذاتية(CV)سيد زاوي،تكون لعمالقة الأدب والفكر و السياسة،تكون للعباقرة والعلماء والإستراتيجيينLes stratéges،للفقهاء والحُفاظ و المحدثين،لمن أسدى للإنسانية الخير والصلاح،في كل حكمة أو معرفة علميةأو فنية أو أدبية أو دينية أو خيالية أو حركية،لأن الهدف الأسمى من الآداب والفنون و الأفكار والإختراعات هو النفع والمصلحة للإنسانية،حتى يستقيم حالها ويستنير فكرها و ترشد أخلاقها و يصلح شأنها.أن يكتب"توماس إديسون"سيرته فهذا معقول،لأنه قدم للإنسانية خدمات جليلة(أكثر من100إختراع)نعيش عليها إلى الآن

  • نبيل

    بكل بساطة، في المجتمعات التي تقتات من الرواسب الذهنية والثقافية، تجد كتاب، وهم قلة، يكتبون لأنفسهم ويطرحون أفكارهم بكل شفافية للعلن ولا يهمهم عدم تجانس أفكارهم مع أفكار مجتمعاتهم وخاصة القراء، كما لا تعنيهم ردود الأفعال، وبالتالي يكونون عرضة في أغلب الأحيان للتهميش والنبذ والشيطنة وربما التصفية. وتجد كتاب، وهم الأغلبية في العالم العربي، يكتبون ما يرضي مجتمعاتهم ويلبي حاجاتها،ويتفادون مواجهة الأفكار الثابتة رغم هشاشتها فقط من أجل كسب الرضي وأشياء أخرى.كيف تريد لمثل هؤلاء أن يكتبوا سيرتهم بشفافية؟

  • لطرش حسيبة

    السيرة الداتية للفلسطينية فدوى طوقان رحلة جبلية رحلة صعبة من اجمل ما كتب في فن البوح

  • نسور الضلام

    على ذكر المقال اعجبتنى صورة فى المنتدى لصاحبها بها صورة سردوك فوق جذع شجرة ممد على ضفتي الوادى يتقدم مجموعة من الدجاج وتحتها حكمة اعجبتنى كثير

    القائد لا يقول لك ما تقول وانما يريك ما تفعل

    انا اامن بهاته المقولة وحفضتها على احد شهداء الواجب كان يخاطبنا يا اولادى ان القائد الذى لا يكون فى المقدمة ليس بقائد

    المهم نحن فى المقدمة مهابيل او عقال وان شاء اصنام هبل ووو ستنهار على رؤوس معتنيقيها
    وعصر الخداع والنفاق الاجتماعى والزيف الحضارى والصورة السريالية المشوهة لا نبرح ولا نتوقف حتى نكشفها

  • حنصالي

    يا جماعة قصة طريفة جدا حصلت بينى وبين احد الذين يسمون انفسهم ادباء ىوهم من منضرى ربيع ابليس

    السيد دكتور وهو معروف كتب مقالتين الاولى كانت مراوغات الكاتب المعروفة فقلنا هات من الاخر

    والثانية كانت عبارة عن تضليل فاحسست انه يتلاعب بعقلى ينضر بغير وعي او عقل او واقع فرديت عليه

    الرد كان بسيط وواضح وشفاف ..قلت له بالمعنى.. اذا كنت دكتور وراجل اخرج ليا فاص افاص فى على سنة سوى هاذ البلاصة والا اخرى ان شاء الله فى المريخ ولا جهنم المهم راس راس

    مازادش كتب لانوا يعرف نقطة ضعفه ويعلم اننى اكتشفتها

  • حنصالي

    سبقتك ليها يا شيخ.. بالصح شخصي من جه اخرى

    لاكن السبب الوحيد على ضنى ان الاديب الجزائرى خاصة والعربي عموما لا يعيش المغامرة الادبية بحقيقتها فتتشكل نص روائي اقرب الى الخيال لا يصدقك ربما الا الذى خالطته وهى حقيقة

    فالاديب العربي اسمحلى هم كسالى ولا يملكون حس المغامرة والاقدام والتحدى وكل ما يؤمنون به من مفاتيح النصوص الادبية ولم تسرى تلك الروح الادبية فى عروقهم فلذالك تجدهم اشبه للتنضير شؤنهم شؤن الدراويش "لن يقاتلوك الا من وراء جدار حصين"
    اصلا الاديب ما يميزه اليست السيرو والعطاء

  • ب.مصطفى

    قبل أن ندعو الى كتابة السيرة الذاتية .نطالب النخبة المثقفة ان تدعو الى تعميم الثقافة داخل المجتمع المغاربي ثقافة سليمة نادجةلا حزبية ولاذاتية يتقبلها الفرد فعندما نحارب الأمية نقول حينها نحن لذينا شعبا مثقفة لازم بملزومه يعيي ما يقرأ وما ينتج له أنذك نقول مرحبى بكتب السير الذاتية فمثلا ماجدوى في كتابة رواية الخبز الحافي في بلد نسبة الأمية فيه اكثر من نصف هذه حقيقة نقولها بمرارة المثقف لايكون مثقفا الا بشروط حددتها المفاهيم الفلسفية أولا ان يكون معبة عن مجتمعه ( وهنا كلام أخر )ثانيا أن يفكر بواسطتها ( أي بلغته الأم ) نرى هذا المقصد بعيدا المنال ف