الرأي

لماذا يخاف الأديب العربي من كتابة سيرته الذاتية؟

أمين الزاوي
  • 5945
  • 10

لا أقصد هنا بـ “السيرة الذاتية” تلك الظلال الباهتة أو بعض تلك الهوامش التي تتسلل إلى النص الروائي لتلتصق بجلد بعض الشخوص الروائية المتخيلة هنا أو هناك بشكل غامض أو مشوه أو محور، هوامش مأخوذة من حياة الكاتب أو مستوحاة منها، بل ما أرمي إليه هو فن “السيرة الذاتية” بكل ما تحمله من أسرار حياة الكاتب ما خفي منها وما عرف، بل إن ما يثير وما يشد في “السيرة الذاتية” هو ما لم تكشفه الأيام من حياة الكاتب، خاصة إذا كان هذا الأديب اسما مكرسا كرمز في المجتمع. تجيء السيرة الذاتية عادة، في الآداب العالمية، بأمانتها وصدقها لتقول تفاصيل أخرى في حياة الكاتب الأديب لتهز وتخلخل ما يكون قد أصبح مقدسا أو ثابتا لدى القراء، السيرة الذاتية الصادقة هي تكسير القناعات التي كرستها رسميات الحياة الاجتماعية والسياسية والمهنية بكل ما فيها من لهث وزيف وطموحات مشروعة أو كاذبة.

الكتاب الجزائريون والمغاربيون والعرب بشكل عام يخافون من كتابة سيرهم الذاتية، يخاف الكاتب العربي من رؤية وجهه الحقيقي في المرآة، لأن المرأة تعيد إليه ملامحه الحقيقية بما فيها من قبح وجمال إن وُجِد. بمجرد أن يكرس المجتمع ملامح ومعالم صورة صنمية للكاتب، فإن هذا الأخير يفقد كل جرأة في محاولة تكسيرها برواية تفاصيل حياتية قد تكون متعارضة مع ما هو معروف عن الروائي اجتماعيا وسياسيا.

إن فقدان كتب السيرة الذاتية في مجتمع ثقافي ما، وأقصد هنا المجتمع المغاربي والعربي، وغياب الكتابة السيروية في الحقل الأدبي يدل على هيمنة ثقافة الخوف من “الحقيقة” وفي الوقت نفسه هي دلالة على تفشي ثقافة “النفاق” التي تصادر “حرية القول” الفردي أو على الأقل لا تستسيغها.

إن إيديولوجية “الحشمة” أو “السترة” التي تحاصر الكاتب العربي وتمارس عليه نوعا من القمع الأخلاقي الاجتماعي والديني تكبح فيه رغبة الذهاب في قراءة الذات وروايتها في مداها البعيد الصادق القريب من الحقيقة، الحقيقة نسبية دائما. إن المجتمع الذي تهيمن عليه هذه الأيديولوجيا هو مجتمع “كومينوتير” (قطيعي) (من قطيع)، لا يعترف بصوت “الفرد” بل يريده أن يكون دائما صدى لـ “صوت الجماعة” أو قطعة في البيزل تُكمِّل ولا تتميز لوحدها، وبالتالي فهو مجتمع ثقافي وسياسي واجتماعي غير مؤهل لقبول جرأة كتابة السير الذاتية التي هي مرآة لتجارب الذات في انكساراتها، بهجتها، تعبها، شقائها، أخطائها، نجاحاتها، صدقها، خيانتها، ضعفها، قوتها، تخاذلها، شجاعتها، جبنها، ترددها، تهورها…

انطلاقا من هذا الوضع السوسيو – ثقافي لم يتجرأ كبار كتابنا من الرواد كما من الجيل ما بعد الرواد، على اختلاف لغة الكتابة لديهم عربية كانت أم فرنسية، أن يكتبوا سيرهم الذاتية من أمثال محمد ديب ومولود معمري وكاتب ياسين وعبد الحميد بن هدوقة ومالك حداد ومفدي زكريا والأخضر السائحي والحبيب السائح ومحمد مفلاح والشريف الأدرع وبشير خلف ومرزاق بقطاش غيرهم.. أتحدث هنا عن الأدباء، يجب الإشارة هنا وفي هذا المقام إلى أن الأديبة زهور ونيسي وكذا الطاهر وطار وعبد المالك مرتاض قد كتبوا سيرهم الذاتية.

إن كتابة السيرة الذاتية ليست مرتبطة بتقدم العمر ولا هي إعلان عن الاقتراب من الشيخوخة بل هي الوقوف على حياة الكاتب في مرحلة معينة والتحديق فيها وقولها القول الصادق، لقد كتب هنري ميلر سيرته الذاتية في كثير من كتبه دون أن يختفي وراء التخييل أو التمويه، كما فعل ذلك طه حسين في الأيام التي تعاني اليوم من “مقص” الرقابة بعد قرابة القرن من صدورها، ومثله فعل أيضا الروائي المغربي محمد شكري في روايته “الخبز الحافي” التي كتبها في أول عهده بالكتابة وقد نشرت مترجمة إلى الإنجليزية الأمريكية ثم إلى الفرنسية لتنشر لاحقا باللغة العربية لغتها الأصلية وبصورة سرية وتلاحق بالطرد والمحاكمة في دول عربية كثيرة.

في مجتمع تهيمن عليه عقلية “القطيع” وثقافة “القطيع” وهي ثقافة وعقلية من مهمتهما، ولو بصورة لاواعية، محاربة “الذات” و”الفردية” و”الفردانية” التي عليها تتأسس كتابة السيرة الذاتية، أمام هذه الحال فكل كاتب يعيش في هذا المجتمع بجمعانيته فهو حيال “الكتابة السيروية” بين أمرين إما:

.

أولا: أن يسكت فلا يكتب شيئا من ذلك وبشكل مباشر يقول فيه بأن هذا الذي يقرأه القارئ هو سيرته الذاتية، يسكت كما فعل الكبار في الأدب الجزائري والمغاربي والعربي لأن الكتابة السيروية ربما ستوقظ الفتنة النائمة، وبالتالي ستكسر الصورة المجتمعية التي يستهلكها المجتمع الثقافي والاجتماعي عن كاتب ما.

من هنا أيضا يهرب البعض من الكتاب من مواجهة القارئ بكتابة سيروية مباشرة والاكتفاء بشحن بعض الشخصيات في رواياتهم بملامح “الذات” لكن بكثير من المسافة وكثير من الغموض وكثير من اللف والدوران المؤسس على وضع رتوش كثيرة ومراوغة على الصورة الاجتماعية لـ “الأنا”، وبالتالي خيانة السيرة الذاتية، التي هي في نهاية المطاف خيانة التاريخ في شموليته.

 .

ثانيا: أن يكتب فيمارس خيانة الذات، خيانة المرآة، خيانة اللغة، وبالتالي خيانة المجتمع والتاريخ، فتتحول كتابة السيرة الذاتية للأديب الذي يفترض فيه حساسية خاصة وشعرية عالية إلى ما يشبه مذكرات السياسيين أو الجنرالات المتقاعدين الذي يصورون أنفسهم وكأنما قدّوا من “لحم” الملائكة. فهم ولدوا أسوياء، وترعرعوا في أسر سوية، ولهم أجداد وجدات وعمات وخالات وجيران وإخوة وأخوات، الجميع في أتم الانضباط والنظافة الاجتماعية والأسرية والدينية والمهنية، وأنهم درسوا بشكل نظامي أو إنهم عصاميون، وأنهم تولوا مناصب فكانوا أحسن من غيرهم، أفضل من الذين سبقوهم والذين جاؤوا من بعدهم والذين سيجيئون من بعد الذين جاؤوا من بعدهم، فهم من طينة لا مثيل لها.

فلسفيا، أعتقد بأن مجتمعا ثقافيا يؤمن بثقافة “التوبة” بمفهومها الديني ولا يعترف بفلسفة “الاعتراف” هو مجتمع ثقافي يبحث عن “الطهارة” الخارجية ويبحث أيضا عن “غسيل للماضي” الذاتي وعدم المرور عليه أو فيه أو الحديث عنه بكل جروحه وأفراحه وأخطائه، بالتالي فهو مجتمع ثقافي وأدبي غير متصالح وغير متسامح مع فن السيرة الذاتية الصادقة في شيطانيتها وملائكيتها. 

مقالات ذات صلة