-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لماذا يعزف الجزائريون عن الانتخابات؟

لماذا يعزف الجزائريون عن الانتخابات؟

مع أنّه أول استحقاق محلّي بعد حَراك 22 فبراير 2019، لكن المواطن، ومثله المراقب السياسي، لا يشعران بحرارة السباق الانتخابي وأهميته في الأوساط الشعبية لولا متابعتهما للحدث إجباريّا عبر وسائل الإعلام، وهذا مؤشرٌ آخر غير مطمئن عن عودة الشعب للاستقالة الجماعيّة من تقرير مصيره ورسم معالم المستقبل حتى بخصوص منطقته الضيقة على الأقل.

انقضى نصفُ الحملة الانتخابية في لقاءاتٍ حزبيّة بينيّة محتشمة، داخل قاعات مغلقة لم يأبه بها المواطنون ولم يكلفوا أنفسهم حتّى عناء اكتشاف ما بداخلها ولو بدافع الفضول السياسي، ربما قد يكون هذا مألوفا في مواعيد سابقة، لكن ليس متوقعًا في انتخابات محليّة جوارية ترتبط بالحياة اليومية لسكان الولاية والبلديّة، وكل فرسانها من أبناء الحيّ.

لذلك عرفت الحملة الدعائية للمرشحين أجواء “فلكلوريّة” في محاولات لاستقطاب الجمهور، حيث تداولت مواقع التواصل الاجتماعي صور الولائم الجماعيّة والإكراميّات في مظاهر جعلت الحدث مبتذلاً لدى الرأي العام، لأنه صار مرتبطًا بإشباع البطون عوض إقناع العقول.

بينما لجأ آخرون إلى تضخيم الخطاب العشائري فتوجهت حملتهم الانتخابية إلى حالة من الاستنفار القبلي في مواجهة المنافسين، ولم يعد أمرا محرجا لدى هؤلاء أن يقدموا أنفسهم ممثلين عن القبيلة في منافسة انتخابية، وهو بلا شكّ سلوكٌ مشين يزيد من النفور الشعبي عن الانتخاب خارج الدائرة القبليّة.

والسؤال الذي نعيد طرحه مرة أخرى هو الآتي: لماذا يعزف الجزائريون مسبقا عن الانتخابات المحليّة بعد مشاركة ضعيفة في البرلمانيات الماضية؟ ألا يُفترض أن تكون محطة سياسية لتجنيد المواطنين، بالنظر إلى مخرجات نتائجها وطبيعتها الجغرافيّة وقوائمها التنافسيّة؟ غير أنّ عدم مبالاة المواطنين يثبت العكس، لتتحوّل الانتخابات من استحقاق وطني شعبيّ عامّ إلى قضية أحزاب وطامحين أحرار في تقلّد مواقع المسؤولية لا أكثر، وهذا الوضع يُفقد تدريجيّا العملية الديمقراطية التمثيلية جوهرها المرتكز على اختيار الإرادة الحرة للشعب، بينما يبقى في واقع الحال مصير المؤسسات المنتخبة بيد الأقليّة.

لعلّ من الملاحظات الأساسيّة بهذا الصدد هو قناعة الجزائريين اليوم بأن الانتخابات لم تنجح في صناعة التغيير المأمول، بل إنها كشفت عن زيف الخطاب السياسي والممارسة الحزبيّة، إذ ذهبت كل وعود التنمية المحليّة أدراج الرياح وكان مصير المئات من المنتخَبين ورؤساء البلديات إلى زنزانات السجون، ومن نجا منهم فقد تفرّغ لخدمة نفسه وحاشيته من الأقربين، وقلّة هم الذين أخلصوا في أداء واجباتهم تجاه الساكنة، بغضّ النظر عن الاختلاف في تقييم مردوده، لذلك من الطبيعي أن لا ننتظر إقبال المواطن على موعد آخر لتزكية الكذب.

من المؤسف أن نسمع جزائريين يرددون في كل مناسبة انتخابية “أن الرجل النظيف لن يتركوه يعمل… أو أنّ الصندوق غير شفاف، وأنْ لا فرق بين الجميع”، وهي علامات إحباط نفسي وسياسي عميقة، تدفع بالكثيرين من الكفاءات النزيهة إلى النأي بنفسها عن المشهد، وخلو المضمار لأصحاب المآرب الخاصّة أو على الأقلّ تدعيم حظوظها.

لا يعني ذلك أنّنا نوافق المواطنَ الساخط على المنتخَبين رأيَه كاملا، خاصّة حين يشهر ورقة المقاطعة السلبيّة، فهو في الحقيقة مسؤول أيضا عن تكريس الرداءة، باختياره نهج “الكرسيّ الشاغر” وتفضيله الخلاص الفردي على اقتحام التدافع السياسي لفرض التغيير ولو محليّا، وليس منطقيّا الأملُ في كسب الحقوق، ولو كانت مشروعة، عن طريق المنحة، لأننّا لا نزال في مرحلة التأسيس لدولة القانون.

ومن الأسباب الرئيسة وراء إحجام الناخبين عن الاهتمام بالمجالس المحلية إدراكهم الواقعي أنّها مغلوبة على أمرها أمام تغوّل السلطات التنفيذيّة للإداريين المعيّنين، خاصة بالنسبة للبلديات التي تكاد صلاحياتُها أن تنحصر في رفع القمامة وصيانة الإنارة العمومية وخدمة الحالة المدنيّة وتوزيع إعانات اجتماعيّة بسيطة، وقد أحسنت الحكومة صنعًا بتحضيرها لتعديل قانونيْ الولاية والبلدية لمنح الأخيرة سلطات أوسع في مجالات التسيير والجباية لتعزيز مواردها الماليّة، بما يحقق دورَها الفعَّال في تحريك التنمية والاستثمارات المحليّة.

لكن الأهمّ هو أن ننتقل فعليّا إلى تأسيس جديد في التجربة الديمقراطية الجزائرية التي لا تزال عرجاء رغم كل المكاسب المحققة، وهو ما يقتضي التجسيد الكامل للإرادة السياسية بسدّ كل الثغرات التنظيمية واستكمال إعادة الثقة والاعتبار للانتخابات بقوانينها وسلطتها المستقلة، وسيكون العبء الأكبر هو تأهيل الثقافة الاجتماعية للتهيؤ الديمقراطي، لأنّ الذهنيات الرجعيّة عائقٌ آخر في طريق الانتقال، وتلك وظيفة متشابكة بين التعليم والثقافة والإعلام والمجتمع السياسي ومختلف النخب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!