-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لو كانت القططُ تطير ما عاشت في السّماء العصافير

أبو جرة سلطاني
  • 2113
  • 15
لو كانت القططُ تطير ما عاشت في السّماء العصافير

مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، بشرطيْن: أن يكون في نيّة السّالك عزيمة قطع هذه المسافة. وأن تكون الخطوة الأولى في الاتجاه الصّحيح. وأنا أتحدّث هنا عن واقعنا اليوم، وفي مخيالي سيرة الرّجليْن اللذين خرجا من مكّة المكرَّمة فارّيْن بدينهما إلى الله تعالى تلقاء المدينة المنوّرة، وكادت قوّى البغي أنْ تُطبق عليهما فكّيْ كماشة المطاردة، لكنّهما نجيا وواصلا طريقهما إلى المدينة. وبعد ثماني سنوات عادا إلى مكة بجيش الفتح الذي كان تعداده عشرة آلاف مقاتل! وفي مخيالي أيضا صورة 22 رجلا اجتمعوا في بيتٍ بأعالى عاصمة الدّولة الجزائريّة ذات ليلة من عام 1954، وقرّروا أن يرموا بثورة التّحرير إلى الشّارع فاحتضنتها الجماهير، وبعد سبع عجافٍ كان النّصر حليفَ الخطوة الواحدة في الاتجاه الصحيح الذي عقد العزم أن تحيا الجزائر. فشهد التّاريخ عودة انبعاثها إلى الحياة بعد ليل استعمار دام 132 سنة.
لا شيء مستحيل، إذا صدقت النيّة وصحّ العزم، لكنّ الفرق واسع بين الحلم والوهم، والمسافة الفاصلة بينهما قد تتحوّل إلى مرتع زحام لقطط ترغب في الطّيران لتصطاد النّسور المُحلّقة في أجواء السّماء. وتغفل عن أنّ الصّقور المرتفعة كثيرا عن سطح الأرض قد تبدو صغيرة الحجْم في عيون القطط الواهمة. فتطمع في النّيل منها. فإذا نزلت إلى الأرض تضاءلت هذه الزّواحف الصّغيرة، وتوارت عن الأنظار، واكتشف أنّ أفواهها أضيق من اللقمة التي كانت تحلم بالتهامها، وأنّ مخالبها مخلوقة لافتراس الفئران وليست مؤهّلة لمنازلة الصّقور. ولو ركّبت لأجسامها أجنحة من الوهم وطارت لكانت طعاما للنّسور. وهذا هو الفرق بين الحلم والوهم. فالواقع يقول: إنّ الله تعالى قد خلق ذات الأنفس على أربعة أضْرُب.
ـ الضّرْب الأوّل قليل؛ وهو الصّنف الطّائر. ولكنْ ما كل ذي جناح يطير. فالدّجاج والبطّ والإوزّ.. من ذوات الأجنحة التي تحلم بالطّيران، ولكنها عاجزة عن تحقيق حلمها.
ـ وصنف كثير يمشي على بطنه، من الزّواحف والهوامّ والسوّام.
ـ وصنف يمشي على أربع، من الأنعام والدّواب والسّباع وذوات الأرجل..
ـ وأرقى هذه الأصناف من خُلق يمشي على قدميْن، وهو الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم. ولكنْ من الناس من يمشي مكبّا على وجهه، ومنهم من يمشي سويًّا على صراط مستقيم، ومنهم من يحلم بالطّيران..
عن هذا الصّنف الرّابع أتحدّث؛ لأنّ الأصناف الثلاثة السّابقة لا تغيّر جلدتها إلاّ لضرورة حياتيّة، ولا تفترس طريدتها إلاّ إذا جاعت، ولا تتناسل إلاّ في مواسم الإخصاب.. فحياتها محكومة بالغرائز ولا صلة لها بالثّقافة والسّياسة والاقتصاد والعمران.. فالطّيور اليوم تبني أعشاشها كما كانت تبنيها قبل مليون عام. والنّمل لم يطوّر بيوته منذ خلقه الله. ومساكن النّحل نشأت نشأة سداسيّة بطابق واحد ومازالت تعرشها في البيوت والجبال والشّجر بالكيفيّة نفسها. أما الإنسان فقد قلّد الطّيور فطار، وقلّد الأسماك فغاص في أعماق البحار، وقلّد الخفاش فاخترع الرّادار، وراقب زحف الثّعابين واختفائها في جحورها فشقّ الأنفاق في بطون الجبال وصنع القطار.. وكل ذلك يُحسَبُ له ما دام الحلم مشروعا والأجر مدفوعا.. فهو سيّد الكائنات والمكلّف ـ سون سواه ـ بخلافة الأرض وإدارة شؤون الجماد والنّبات والحيوان.. لكنّ الأمر المحيّر في طبيعة هذا المخلوق المعقّد أنّ طموحه بلا سقف، وأنّ أحلامه بلا حواجز، وأنّ أمله بلا حدود.
ـ طفل دون سنّ التّمدرس سُئل في الرّوضة: ماذا تتمنّى أن تصبح عندما تكبر وتصير رجلا؟ أجاب ببراءة: أريد أن أصبح ثريّا!
ـ ورجل أمّيٌّ فتحت له المأساة الوطنيّة غار “علي بابا” فدخله وحمل ما استطاع من كنوز بني العلقم، ثمّ اشترى بالمال المنصب، ثمّ شرّع لثروته بالسّلطة.. واليوم يريد أن يركّب جناحيْن ليطير!
ـ وقطّ صغير نفخت فيه البطانة انتفاشة الأسد، فطالت مخالبه حتّى توهّم أنه صار ليثا هِزبرًا وأنّ بمكنته أن يصير سلطان الضّواري!
ـ وعلْجٌ من علوج الفضاء الأزرق قاموسه السبّ والشّتيمة والقذف والافتراء.. إذا عاتبه بعضُهم أو لامه كان ردّه: هذه حريّة تعبير، ومن حقّي أنْ أكتب ما أشاء، وأن أغرّد كيفما أريد، ولكل من أقذفه حقّ الردّ!
ـ وخامس.. وسادس.. وسابع وسبعون.. قالوا في الأشراف ما لم يقله مالك في الخمر، وما لم يقله صاحب التّلبيس في إبليس.
قلت: الحمد لله الذي لم يجعل للقطط أجنحة، ولم يودع فيها سُخْرة الطّيران، وإلاّ لما طار عصفورٌ في السّماء، فديدن القطط صرْف النّظر عن صيد الفئران المخلوقة لها غذاءً في الأرض، بالتطلّع إلى السّماء لصيد العصافير. ولو أنها استطاعت الطّيران “لطهّرت” الجوّ من كل طائر بجناحيْن. لكنْ للسّنن منطقاً يسمّى “الانتقاء الطبيعي” يسمح للنّباتات المتسلّقة أن تلتصق بالأشجار الكبيرة، ويسمح للحشرات الطائرة أن ترتفع قليلا فوق سطح الأرض، ويسمح للأسماك الصغيرة أن تعيش قريبا من الشّواطئ في المياه الضّحلة.. لكنّ حياة هذه الطّفيليات والحشرات الطائرة والأسماك الصغيرة مهدَّدة بالفناء إذا انتفضت الكائنات العملاقة لتحافظ على نوعها وبقائها، فتتمّ التّضحيّة بالفروع لصالح الأصل، فالطبيعة لا تقبل الفراغ ولكنها أيضا لا تسمح للقطط بالطّيران لأنها من ذوات الأربع ورزقها في الأرض لا في السّماء، وإذا سوّلت لبعض القطط أنفسُهم الطيرانَ فإن السّقوط مريع.
عوْد على بدْء لنطرح السّؤال الأخير: هل يستوي قياسُ الحراك الاجتماعي اليوم بحركة التّاريخ بالأمس؟ وبمعنى آخر: هل أحلام شباب اليوم تشبه أحلام الذين كانوا قليلا مستضعَفين في الأرض يخافون أن يتخطّفهم الناس، فخرجوا اثنيْن وعادوا عشرة آلاف؟ وهل يعيد التّاريخ نفسه فيدرك النّاس أنّه لو قام كلُّ فردٍ بواجبه، دون أن يعيش أحلام اليقظة يتخيّل نفسه نسْرًا، أو يتطلّع إلى صيد العصافير التي في السّماء، وقتها فقط يبدأ تاريخٌ جديد بواقعيّة تفرز بين الزّواحف وبين بني البشر، وتحدّد الحقّ والواجب وتضع النّقاط على الحروف.
صحيح: إنّ أحلام الأمس حقائق اليوم، وأحلام اليوم حقائق الغد. وصحيح أيضا أنّ مسافةَ الألف يوم تبدأ بخطوة واحدة في الاتّجاه الصّحيح. ولكنّ التاريخ علّمنا أنه إذا كنّا قد قطعنا آلاف الأميال ولم نصل إلى الهدف، فذلك يعني واحدة من اثنتيْن: إما أننا كنّا ندور في حلقة مفرغة يجب أن نخرج منها أوّلا. وإما أنّنا أخطأنا المنعطف وسرنا في اتّجاه لا يوصل إلى الهدف المنشود. وفي كلتا الحالتيْن نحن بحاجة إلى وقفة مراجعة لمسيرة طال أمدُها ولم نرَ لها ثمرة. فما نراه بأمّ أعيننا ليس سوادا كالحًا وليس بياضا ناصعا، لأنّ في رقعة الشطرنج نقاطَ ظل كثيرة بحاجة إلى أن نسلّط عليها أضواءً وطنيّة تبدّد ما حولها من شكوك.
* لا شيء مستحيل، إذا صدقت النيّة وصحّ العزم، لكنّ الفرق واسع بين الحلم والوهم، والمسافة الفاصلة بينهما قد تتحوّل إلى مرتع زحام لقطط ترغب في الطّيران لتصطاد النّسور المُحلّقة في أجواء السّماء. وتغفل عن أنّ الصّقور المرتفعة كثيرا عن سطح الأرض قد تبدو صغيرة الحجْم في عيون القطط الواهمة. فتطمع في النّيل منها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
15
  • كتاب توهامي

    الحمد لله أنك لا تطير.

  • ahmed

    هذا التفجير النووي للحصى الذي يتكون منه غثاء السيل ممكن . ولقد راينا كيف يفجر شبان مسلمين انفسهم من اجل قضية. هاته الخاصية منعدمة في الحضارة الغربية الان بعد سحقها لثقافة الساموراي بقنبلة نووية. المطلوب الان هو كيف يفجر الفرد نفسه في الفلاحة والصناعة والتعليم والصحة وليس ان يقتل نفسه وغيره.

  • ahmed

    وهذا طريق الدعوة الفردية لتغيير الفرد الذي بدأه البنا. اما الثمرة السياسية اللتي تتكلم عنها فقد قطفت كثيرا ولكن بدون جدوى. لقد وصلتم الى الوزارة , بعد اضطهادكم في السجون ووصلتم للرئاسة في مصر وتونس والجزائر , لكن دون جدوى , لانكم اخطاتكم الطريق وهو اقيمو دولة الاسلام في نفوسكم

  • ahmed

    الحراك الاجتماعي الذي تراه اليوم ليس ذاتيا ومثله ما يحدث في فنزويلا بل هو بتاثير القوة الخارجية للحضارة الغربية ذات التوجه الليبرالي. فكما ان الصاروخ يحتاج كي يطير الى طاقة دفع الى الاعلى تتغلب على قوة الجذب للاسفل للجاذبية والا سقط, فان هذا الحراك الذي تراه هو بتااثير قوى الصاروخ الذي ضرب برجي التجارة بعد سقوط جدار برلين الذي عمل توزنا لمدة معينة للتوجه الليبرالي للغرب. الان حتى هم مقتنعون ان لدينا البديل الحضاري لكننا كغثاء السيل لا يتحرك ذاتيا بل بطاقة السيل الذي يجرفه. لكي يتحرك ذاتيا يستوجب انفجارا نوويا في كل حصاة من هذا الغثاء. وهذا طريق الدعوة الفردية لتغيير الفرد الذي بدأه يتبع

  • جزائري أصيل

    بارك الله في الشيخ، مقال رائع وممتع، المقال يحتاج إلى تفصيل أكثر ، وليت الشيخ يضيف عنصر الموانع التي تحيل دون تحقيق أحلام الشباب والعوائق التي يضعها من بيدهم المسؤولية في البلاد.

  • لعبيدي مسعود /بسكرة

    السلام عليكم اما بعد :" ومايعلم جنود ربك الا هو "
    - النص يحمل الكثير من الاوجه والرسائل لعدة اطراف.
    - كما انه يعبر عن غضب من ضيم الاقارب.
    - كما يشي بصراع حزبي.
    - ويعبر عن تضخم الانا واستصغار الاخر.
    - ياسي ابو جرة انت جندي في جيش فرابط وسدد ولا تلفت الى الغثاء.
    - في الاخير اقول: لقد ذكر النمل في القرآن ولم يذكر اليناصور بل وانقرض وفي ذلك عبرة

  • من البليده

    لم اقرا الموضوع ولن اقراه لانه مضيعه للوقت اعلق فقط علي العنوان وهل القطط اشرس واقوي من النسور رغم دالك تبقي العصافير موجوده الي الابد وهدا يدخل في توازن الطبيعه وتنوعها اما افكاركم فلاتعترف بالاخر

  • nacer

    راجع نفسك قبل فوات الأوان , فملك الموت دائما على الباب , و دعك من الطيور و القطط

  • Salim

    و ما محل الكاتب من تلك الاصناف.؟ التاريخ لن يرحم أحدا

  • انا

    سكت دهرا و نطق كفرا روح تكتب لحروز و تتمربط بالرقية و الشعودة خيرا لك من الخو ض في السيا سية بفسفة الحاهلية . اعماك اكرسي يا شيخ

  • Lippo

    أولا البط و الاوز من ذوات الاجنحة التي تطير !!!
    المقال مبتذل مليئ بسجع الكهان و ...لكن خلاصة القول تقول:
    لا تنه عن خلق وتأتى بمثله
    عار عليك إذا فعلت عظيم

  • Lippo

    أولا البط و الاوز من ذوات الاجنحة التي تطير !!!
    المقال مبتذل مليئ بسجع الكهان و ...لكن خلاصة القول تقول:
    لا تنه عن خلق وتأتى بمثله
    عار عليك إذا فعلت عظيم

  • صالح بوقدير

    المشكل في الذي يعلم يقينا أنه يسير في الاتجاه الخاطئ ثم يواصل السير ؟هل مابه حلم أووهم؟ وهل هويمشي مكبا على وجهه أمهوعلى صراط مستقيم؟

  • عمارة احمد

    لا فض فوك يا شيخ ابوجرة .

  • سلام

    القطط تركك الطيران للخفافيش والوصوليين
    والله ان أكل الطيور أهون من اكل اموال الشعب بمناصب غير مستحقة
    الطيور تركت الفئران وتطلعت الى الطيور
    وهناك اشخاص تركوا الدعوة وتطلعوا للدولة فحالهم كحال القطط ....اوقل كحال الغربان تركت مشيتها وحاولت تقليد الحمامة في مشيتها...ولله في خلقه شؤون