الرأي

لو كانت القططُ تطير ما عاشت في السّماء العصافير

أبو جرة سلطاني
  • 2115
  • 15

مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، بشرطيْن: أن يكون في نيّة السّالك عزيمة قطع هذه المسافة. وأن تكون الخطوة الأولى في الاتجاه الصّحيح. وأنا أتحدّث هنا عن واقعنا اليوم، وفي مخيالي سيرة الرّجليْن اللذين خرجا من مكّة المكرَّمة فارّيْن بدينهما إلى الله تعالى تلقاء المدينة المنوّرة، وكادت قوّى البغي أنْ تُطبق عليهما فكّيْ كماشة المطاردة، لكنّهما نجيا وواصلا طريقهما إلى المدينة. وبعد ثماني سنوات عادا إلى مكة بجيش الفتح الذي كان تعداده عشرة آلاف مقاتل! وفي مخيالي أيضا صورة 22 رجلا اجتمعوا في بيتٍ بأعالى عاصمة الدّولة الجزائريّة ذات ليلة من عام 1954، وقرّروا أن يرموا بثورة التّحرير إلى الشّارع فاحتضنتها الجماهير، وبعد سبع عجافٍ كان النّصر حليفَ الخطوة الواحدة في الاتجاه الصحيح الذي عقد العزم أن تحيا الجزائر. فشهد التّاريخ عودة انبعاثها إلى الحياة بعد ليل استعمار دام 132 سنة.
لا شيء مستحيل، إذا صدقت النيّة وصحّ العزم، لكنّ الفرق واسع بين الحلم والوهم، والمسافة الفاصلة بينهما قد تتحوّل إلى مرتع زحام لقطط ترغب في الطّيران لتصطاد النّسور المُحلّقة في أجواء السّماء. وتغفل عن أنّ الصّقور المرتفعة كثيرا عن سطح الأرض قد تبدو صغيرة الحجْم في عيون القطط الواهمة. فتطمع في النّيل منها. فإذا نزلت إلى الأرض تضاءلت هذه الزّواحف الصّغيرة، وتوارت عن الأنظار، واكتشف أنّ أفواهها أضيق من اللقمة التي كانت تحلم بالتهامها، وأنّ مخالبها مخلوقة لافتراس الفئران وليست مؤهّلة لمنازلة الصّقور. ولو ركّبت لأجسامها أجنحة من الوهم وطارت لكانت طعاما للنّسور. وهذا هو الفرق بين الحلم والوهم. فالواقع يقول: إنّ الله تعالى قد خلق ذات الأنفس على أربعة أضْرُب.
ـ الضّرْب الأوّل قليل؛ وهو الصّنف الطّائر. ولكنْ ما كل ذي جناح يطير. فالدّجاج والبطّ والإوزّ.. من ذوات الأجنحة التي تحلم بالطّيران، ولكنها عاجزة عن تحقيق حلمها.
ـ وصنف كثير يمشي على بطنه، من الزّواحف والهوامّ والسوّام.
ـ وصنف يمشي على أربع، من الأنعام والدّواب والسّباع وذوات الأرجل..
ـ وأرقى هذه الأصناف من خُلق يمشي على قدميْن، وهو الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم. ولكنْ من الناس من يمشي مكبّا على وجهه، ومنهم من يمشي سويًّا على صراط مستقيم، ومنهم من يحلم بالطّيران..
عن هذا الصّنف الرّابع أتحدّث؛ لأنّ الأصناف الثلاثة السّابقة لا تغيّر جلدتها إلاّ لضرورة حياتيّة، ولا تفترس طريدتها إلاّ إذا جاعت، ولا تتناسل إلاّ في مواسم الإخصاب.. فحياتها محكومة بالغرائز ولا صلة لها بالثّقافة والسّياسة والاقتصاد والعمران.. فالطّيور اليوم تبني أعشاشها كما كانت تبنيها قبل مليون عام. والنّمل لم يطوّر بيوته منذ خلقه الله. ومساكن النّحل نشأت نشأة سداسيّة بطابق واحد ومازالت تعرشها في البيوت والجبال والشّجر بالكيفيّة نفسها. أما الإنسان فقد قلّد الطّيور فطار، وقلّد الأسماك فغاص في أعماق البحار، وقلّد الخفاش فاخترع الرّادار، وراقب زحف الثّعابين واختفائها في جحورها فشقّ الأنفاق في بطون الجبال وصنع القطار.. وكل ذلك يُحسَبُ له ما دام الحلم مشروعا والأجر مدفوعا.. فهو سيّد الكائنات والمكلّف ـ سون سواه ـ بخلافة الأرض وإدارة شؤون الجماد والنّبات والحيوان.. لكنّ الأمر المحيّر في طبيعة هذا المخلوق المعقّد أنّ طموحه بلا سقف، وأنّ أحلامه بلا حواجز، وأنّ أمله بلا حدود.
ـ طفل دون سنّ التّمدرس سُئل في الرّوضة: ماذا تتمنّى أن تصبح عندما تكبر وتصير رجلا؟ أجاب ببراءة: أريد أن أصبح ثريّا!
ـ ورجل أمّيٌّ فتحت له المأساة الوطنيّة غار “علي بابا” فدخله وحمل ما استطاع من كنوز بني العلقم، ثمّ اشترى بالمال المنصب، ثمّ شرّع لثروته بالسّلطة.. واليوم يريد أن يركّب جناحيْن ليطير!
ـ وقطّ صغير نفخت فيه البطانة انتفاشة الأسد، فطالت مخالبه حتّى توهّم أنه صار ليثا هِزبرًا وأنّ بمكنته أن يصير سلطان الضّواري!
ـ وعلْجٌ من علوج الفضاء الأزرق قاموسه السبّ والشّتيمة والقذف والافتراء.. إذا عاتبه بعضُهم أو لامه كان ردّه: هذه حريّة تعبير، ومن حقّي أنْ أكتب ما أشاء، وأن أغرّد كيفما أريد، ولكل من أقذفه حقّ الردّ!
ـ وخامس.. وسادس.. وسابع وسبعون.. قالوا في الأشراف ما لم يقله مالك في الخمر، وما لم يقله صاحب التّلبيس في إبليس.
قلت: الحمد لله الذي لم يجعل للقطط أجنحة، ولم يودع فيها سُخْرة الطّيران، وإلاّ لما طار عصفورٌ في السّماء، فديدن القطط صرْف النّظر عن صيد الفئران المخلوقة لها غذاءً في الأرض، بالتطلّع إلى السّماء لصيد العصافير. ولو أنها استطاعت الطّيران “لطهّرت” الجوّ من كل طائر بجناحيْن. لكنْ للسّنن منطقاً يسمّى “الانتقاء الطبيعي” يسمح للنّباتات المتسلّقة أن تلتصق بالأشجار الكبيرة، ويسمح للحشرات الطائرة أن ترتفع قليلا فوق سطح الأرض، ويسمح للأسماك الصغيرة أن تعيش قريبا من الشّواطئ في المياه الضّحلة.. لكنّ حياة هذه الطّفيليات والحشرات الطائرة والأسماك الصغيرة مهدَّدة بالفناء إذا انتفضت الكائنات العملاقة لتحافظ على نوعها وبقائها، فتتمّ التّضحيّة بالفروع لصالح الأصل، فالطبيعة لا تقبل الفراغ ولكنها أيضا لا تسمح للقطط بالطّيران لأنها من ذوات الأربع ورزقها في الأرض لا في السّماء، وإذا سوّلت لبعض القطط أنفسُهم الطيرانَ فإن السّقوط مريع.
عوْد على بدْء لنطرح السّؤال الأخير: هل يستوي قياسُ الحراك الاجتماعي اليوم بحركة التّاريخ بالأمس؟ وبمعنى آخر: هل أحلام شباب اليوم تشبه أحلام الذين كانوا قليلا مستضعَفين في الأرض يخافون أن يتخطّفهم الناس، فخرجوا اثنيْن وعادوا عشرة آلاف؟ وهل يعيد التّاريخ نفسه فيدرك النّاس أنّه لو قام كلُّ فردٍ بواجبه، دون أن يعيش أحلام اليقظة يتخيّل نفسه نسْرًا، أو يتطلّع إلى صيد العصافير التي في السّماء، وقتها فقط يبدأ تاريخٌ جديد بواقعيّة تفرز بين الزّواحف وبين بني البشر، وتحدّد الحقّ والواجب وتضع النّقاط على الحروف.
صحيح: إنّ أحلام الأمس حقائق اليوم، وأحلام اليوم حقائق الغد. وصحيح أيضا أنّ مسافةَ الألف يوم تبدأ بخطوة واحدة في الاتّجاه الصّحيح. ولكنّ التاريخ علّمنا أنه إذا كنّا قد قطعنا آلاف الأميال ولم نصل إلى الهدف، فذلك يعني واحدة من اثنتيْن: إما أننا كنّا ندور في حلقة مفرغة يجب أن نخرج منها أوّلا. وإما أنّنا أخطأنا المنعطف وسرنا في اتّجاه لا يوصل إلى الهدف المنشود. وفي كلتا الحالتيْن نحن بحاجة إلى وقفة مراجعة لمسيرة طال أمدُها ولم نرَ لها ثمرة. فما نراه بأمّ أعيننا ليس سوادا كالحًا وليس بياضا ناصعا، لأنّ في رقعة الشطرنج نقاطَ ظل كثيرة بحاجة إلى أن نسلّط عليها أضواءً وطنيّة تبدّد ما حولها من شكوك.
* لا شيء مستحيل، إذا صدقت النيّة وصحّ العزم، لكنّ الفرق واسع بين الحلم والوهم، والمسافة الفاصلة بينهما قد تتحوّل إلى مرتع زحام لقطط ترغب في الطّيران لتصطاد النّسور المُحلّقة في أجواء السّماء. وتغفل عن أنّ الصّقور المرتفعة كثيرا عن سطح الأرض قد تبدو صغيرة الحجْم في عيون القطط الواهمة. فتطمع في النّيل منها.

مقالات ذات صلة