-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ماذا لو نطبّق مبدأ بيتر؟!

ماذا لو نطبّق مبدأ بيتر؟!

قبل ثلاثة أيام كنّا نستمع لمعارض سياسي مقيم في كندا منذ عقود ما يجعلك تتخيّل من خلال تحاليله وأحكامه القطعية أنه أوتي من العلم في جميع مناحي الحياة السياسة والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والعلمية مجتمعة ما لم يكتسبه غيره مجتمعين! ومن ثمّ ضيّع بدون أن يدري جانبَ المصداقية التي ينتظرها من مشاهديه بعضهم، أو جلّهم. وقد جاء ضمن انتقاداته ذكر مبدأ بيتر Peter  (1919-1990) الذي “تعلّمه في الجامعة” (حسب دعواه). والواقع أننا لا نعتقد أبدا أنه مبدأ يدرَّس في الجامعات بل يبدو هذا المبدأ من “السَّذاجة” والبساطة ما يجعله أشبه بالنكتة. فماذا يقول هذا المبدأ؟

مبدأ بيتر

وُلد لورانس بيتر في مدينة فانكوفر الكندية ودرس في جامعة واشنطن، ونال منها شهادة الدكتوراه في التربية عام 1963. ثم اشتغل في مناهج التدريس، واشتهر بكتابه الصادر عام 1968 (مبدأ بيتر). يقول بيتر إنه لاحظ عندما بدأ التدريس بأن الأساتذة ومديري المدارس لم يكونوا يُلمّون بمهامّهم على أحسن وجه. وما شد انتباهه أكثر أن الشغل الشاغل لمدير المؤسسة كان الحفاظ على العشب وستائر النوافذ في الحجرات والهدوء داخل القسم. وأدى به ذلك إلى البحث عن الأسباب، فاستخلص أن كل مؤسسة توظف بعض المستخدَمين العاجزين عن العمل بكفاءة. ثم لاحظ أن هذه الظاهرة متفشّية في كل القطاعات (السياسة، العدالة، الجامعة، الصناعة، التجارة…)!

ما شد انتباهه أكثر أن الشغل الشاغل لمدير المؤسسة كان الحفاظ على العشب وستائر النوافذ في الحجرات والهدوء داخل القسم. وأدى به ذلك إلى البحث عن الأسباب، فاستخلص أن كل مؤسسة توظف بعض المستخدَمين العاجزين عن العمل بكفاءة. ثم لاحظ أن هذه الظاهرة متفشّية في كل القطاعات (السياسة، العدالة، الجامعة، الصناعة، التجارة…)!

يرمي المبدأ إلى وصف تطوّر العامل في وظيفته وكيفية ارتقائه من سلم إلى آخر، ويصل إلى نتيجة غريبة تقول إن الموظف في المؤسسات بوجه عام يبدأ في أدنى درجة من السلم الوظيفي ويظل يرتقي ويتقلب في المناصب من الحسن إلى الأحسن، لكن واقع الحال يقول إنه سيتوقف عن الارتقاء في المنصب عندما يصل إلى مستوى عدم الكفاءة، بمعنى أن كفاءته توصله تدريجيا إلى منصب، في آخر المطاف، غير جدير به!

والموظف الكفء يُرَقَّى لكفاءته إلى منصب أعلى. تلك هي القاعدة العامّة المعمول بها في سائر الإدارات والمؤسسات. وتتكرر هذه العملية إلى أن يأتي يوم لن يرّقى بعده الموظف. وحينئذ ماذا نقول عن كفاءته؟ هل هي جيدة؟ لو كانت كذلك لرُقّي مجددًا، لكنه لم تتم ترقيته. وبالتالي فكفاءتُه ناقصة. ذلك هو منطق بيتر. وخلاصة هذا المبدأ هي أن هذا الموظف صار غير كفء، وعليه ظل في منصبه ولم يرتقِ. بل كان بالإمكان أن يعاد إلى منصبه الذي كان يشغله قبل تولّيه منصبه الأخيرة، وفي هذه الحالة سيكون ذا كفاءةٍ أفضل! إليك ثلاثة أمثلة يوضح بها بيتر صحة هذا المبدأ:

مثال 1:  كان باتريك طالبا، ثم أصبح أستاذا لمادة العلوم الطبيعية. كانت دروسُه ممتازة وكذلك كانت التجارب التي يجريها للطلبة في المخبر. كان طلبته يحبونه وكانوا يحافظون على المخبر ومحتوياته. لم يكن باتريك يعشق تسيير الملفات الإدارية، لكن أصحاب القرار كانوا واثقين بأن نقطة الضعف هذه سوف يتغلب عليها باتريك بنجاحه في أدائه العلمي مع الطلبة.

وهكذا رُقِّي ليصبح مدير الأعمال التطبيقية. وأصبح عليه أن يطلب مشترياتٍ من مواد ضرورية للمخابر، وتحديث الحسابات والملفات المتعلقة بها، فتجلى عجزه في القيام بهذه المهام حيث اشترى خلال 3 سنوات مواقد غازية ونسي شراء الأنابيب المتعلقة بها. ولما صارت الأنابيب القديمة غير صالحة أصبحت المواقد التي اشتراها غير لائقة. بهذا الوضع لا يمكن أن يطمح باتريك في أن يُرقّى مجددا، وظل في منصبه وهو غير كفء في أداء مهامه تلك!

مثال 2: كان النقيب غودوين بشوشا وجريئا لا يهمُّه كثيرا تطبيقُ القانون في صفوف جيشه بقدر ما تهمّه جودة الأداء. ولذا حظي باحترام لا يضاهى من قبل الجند، وجعلهم ذلك ينتصرون في معظم المعارك التي خاضوها. ولما رُقِي غودوين إلى رتبة عقيد لم يعد يتعامل مع الجنود بشكل مباشر وأصبح يتعامل أكثر مع الساسة وكبار قادة الجيش وهو يحافظ على نفس الطريقة التي تعوَّد عليها في سلوكه مع الجنود. وقد رفض الرضوخ إلى البروتوكولات الجديدة فعُزل وصار مغضوبا عليه فأدمن على الخمر، وفشل في أداء مهامه فشلا ذريعًا. وهكذا نرى أن هذا الضابط قد رُقّي إلى منصب لم تكن له فيه كفاءة وظلّ يعاني منه!

مثال 3: تصوّر موظفا عاجزا تماما وغير كفء، تُرقّيه الإدارة إلى منصب لا يستطيع أن يؤدي فيه أي دور، وذلك للتخلّص منه. هذا الموظف كان بدون كفاءة وظلّ على تلك الحال. كما يمكن أن يُحوَّل المرء غير الكفء من منصب إلى منصب يحمل مثلا تسمية فضفاضة يعتقده المرء ترقية وما هي بترقية.. كأنْ يُحوَّل رئيس مصلحة الموظفين -لعدم كفاءته في تسيير ملفات التوظيف- إلى منصب منسِّق الاتصالات بين الإدارات محافظًا على نفس الراتب وعمله يتمثل في مراقبة ترتيب الوثائق.

قمّة الرداءة

لذلك كله رأى العديد من الناس سذاجة في هذا المبدأ وسخروا منه، رغم انطوائه على الكثير من الحقائق. وإذا صدّقنا هذا المبدأ فالموظف لا يعمّر طويلا في المنصب الذي يثبت فيه جدارة وكفاءة لأن تلك الكفاءة إن أبرزها فستكون سببا في ترقيته! ولاحظ بيتر أن الكفاءة العالية تعدُّ أمرا خطيرا.. أخطر من فقدان الكفاءة لأن ذا الكفاءة العالية يتجاوز وظيفته وأداء مهامه فيزعزع هيكل مؤسسته واستقرارها.. أما إبعاد فئة العاجزين منها فتبدو أمرا بسيطا. ويقرّ بيتر أن مبدأه صعب التطبيق في المجال السياسي المبني على الانتخابات، ومع ذلك يشير إلى أنه سواء تعلق الأمر ببلد بدون أحزاب أو بحزب واحد أو بعدّة أحزاب فالأمر سيّان.

ثم لِمَ لا نتصوَّر أن من الناس من يكون فعَّالا عندما تكون بيده كل السلطات؟ مثال ذلك الزعيم البريطاني الشهير وينستن تشرشل الذي فشل فشلا ذريعا في إدارة وزارة البحرية خلال الحرب العالمية الأولى. وهذا الفشل حال دون ترقيته إلى منصب الوزير الأول في بلاده. ألا يجوز لنا الاستنتاجُ بأنَّ سبب فشله ليس في عدم كفاءة هذا الرجل، بل يرجع إلى كون هذه الكفاءة لم تجد الحرية الكافية والهامش الواسع للتجسُّد؟ والدليل هو أنه لما تقلد تشرشل بعد الحرب العالمية الثانية منصب الوزير الأول اتضحت كفاءته وأثبت جدارته الخارقة في تسيير شؤون البلاد في أحلك الظروف.

وإذا عدنا إلى الناقد السياسي المشار إليه في المقدمة، والذي طال عهدُه في النقد ولم تتم ترقيته، وطبقنا عليه مبدأ بيتر -الذي طبّقه هو على غيره- لجاز لنا الحكم على أنه بلغ قمّة رداءة الأداء وعدم الكفاءة!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!