الرأي

ماذا يريد دعاة العصيان المدني؟

ح.م

ما سمعناه في مسيرات “الجمعة 24” من هتافات تروِّج للعصيان المدني أمرٌ خطير للغاية، وتحوُّلٌ مخيف في المسار السلمي للحَراك الشعبي منذ خمسة شهور، يجب أن نتعامل معه بجدِّية وحذر، دون ثقة زائدة في الوعي الجمعي.

لا شكّ أن المشاركين بالملايين في تظاهرات الحَراك كل جمعة يدركون تماما أنّ فكرة العصيان المدني لم تنبثق أبدا من عمق الأوساط الشعبيّة التي تكافح لأجل التغيير، والتي لا تزال متشبِّثة بمطالبها في تكريس الانتقال الفعلي نحو الديمقراطية الحقيقية، ويستحيل اليوم بعد نصف سنة من ثورة هادئة حيّرت العالم أن تنزلق نحو العنف أو التخريب.

المؤكد أنّ بثّ تلك الفكرة المسمومة وسط الحَراك هو محاولة أخرى للاختراق والتفجير من الداخل، عبر الانحراف به نحو مزالق الصدام مع النظام والمؤسسات الأمنيّة، وفي هذه الحالة لن تكون دوائر التخطيط والإيحاء سوى مخابر الدولة العميقة والعصابة، لأنها المتضرِّر الوحيد ممّا يجري من تطورات سريعة على المستوى السياسي والقضائي، وهي تنذر بنهاية حقبةٍ سوداء في تاريخ الجزائر الحديث.

لذلك، وجب على التيّار الأصيل داخل الحَراك، أحزابا وشخصيات وأفرادا، ومن عموم المواطنين، الانتباه مبكّرا إلى حقيقة ما يحاك في الخفاء من دسائس للسطو على مخرجات الثورة، وعدم الانجرار بانفعالاتٍ ثوريّة وراء دعوات لا تُخفى خطورُتها على أيّ عاقل؛ إذ من الغباء والتهوّر أن يسوِّق البعض لأفكار لا يعرف مصدرها، بل إنّ دعاتها الفعلييّن معروفون أحيانا بولاءاتهم ومواقفهم العدائيّة تجاه مؤسسات سياديّة في الدولة.

ليكن معلومًا أنّ العقل السياسي للدولة العميقة، ومن تحالف معه من أذرع وشبكات وفضاءات ومنابر، هو المدبِّر الفعلي منذ بداية الحَراك للدفع بالأوضاع السلميّة نحو التعفين والفوضى، إذ لا يخدم تقدّم المسار الطبيعي للأحداث أجنداتهم الخاصّة، لأنّ رهانهم ليس أبدا المخرج الانتخابي الآمن، بل المساومة والمحاصصة وتقاسم السلطة والمال، تحت ضغط اللوبيّات على حساب تطلُّعات الشعب، إذ يملكون أدوات الابتزاز ويتقنون فنون الضرب تحت الحزام.

إنّ هؤلاء الحالمين بركوب الحَراك لإعادة التموقع داخل السلطة، يحاولون بكل الطرق الاستثمار في نفسيّة الإحباط الذي بدأ يتسرّب إلى قلوب الجزائريين من جدوى المظاهرات السلمية في تغيير النظام السياسي، ولذلك يقذفون بفكرة العصيان المدني كآخر ورقة، بزعمهم، لإكراه السلطة على الاستجابة لمطالب الشعب، بينما هم في الحقيقة يخططون لإرباك النظام من أجل التفاوض من وراء الستار، غير آبهين بتعريض الدولة كلها لشبح السقوط.
وعليه، فإنّ مسؤولية السلطة الفعليّة اليوم تاريخيّةٌ في سحب البساط من تحت أرجل هؤلاء المتربِّصين بحراك الشعب، من خلال بعث الأمل في إيجاد مخارج عاجلة للأزمة السياسيّة، وقطع الشكّ باليقين بشأن الإرادة العليا في مرافقة مطالب الجزائريين وتجسيدها عمليّا عبر توفير كل الشروط الضروريّة والإجراءات اللازمة لانطلاق حوارٍ جادّ يقودنا إلى الصندوق الانتخابي بكلّ شفافيّة.

إنّ التقاعس أو سوء إدارة المرحلة سيُضعف يقيناً من موقف المدافعين عن مقاربة الحلول الآمنة والعقلانيّة، ليُضفي مشروعية واقعيّة على مخططات المتآمرين، ويوسعّ من دائرة التطرّف السياسي، لأنّ التعّنت في فرض المنطق الأحادي يولّدا حتمًا عنادًا لدى الطرف الآخر، تصعب معه حماية الحَراك من الاستعمال الخارجي.

كما أنّ تفكير البعض بمنطق “الكرسي الشاغر” بعد بروز شعارات الاختراق، من خلال العمل على تفريغ الحَراك، لتعرية فلول الدولة العميقة، سيكون خطأ قاتلاً، تخلو معه ساحة المعركة لجماعات المصالح، ما يمكّنها من قطف ثماره في نهاية المطاف، بل المطلوب هو المرابطة في الميدان والحفاظ على الخطّ الأصيل لثورة الشعب.

مقالات ذات صلة