-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ماذا يريد دعاة “بكالوريا التربية الإسلامية”؟

ماذا يريد دعاة “بكالوريا التربية الإسلامية”؟

بإعلان وزير التربية الوطنية مؤخَّرا استحداث “بكالوريا الفنون”، يكون عبد الحكيم بلعابد قد أحسن صُنعًا، من حيث لا يدري، بإحياء المطلب القديم المتجدد بخصوص إعادة الاعتبار لشعبة العلوم الإسلامية في التعليم الثانوي الجزائري والتي غمطها التغريبيّون حقها قبل عشرين عامًا، باستغلال السياق الدولي الضاغط، جاعلين من شعارات مكافحة الإرهاب مطيّة لتمرير الأجندات الإيديولوجيّة في أعقاب أحداث 11 سبتمبر2001.

وقبل التعريج على هذه القضية الجوهريّة، ينبغي التنبيه إلى أنّ الموقف من “بكالوريا الفنون” سيظلّ مثيرا للغطٍ كبيرٍ وسط المختصين في شؤون التربية والرأي العام، إلى أن تفصح الوزارة الوصيّة عن فلسفتها الحقيقية في رؤيتها للفنّ أصلاً، لأنّ أيّ مقاربة تعليميّة خارج الثقافة الأصيلة للمجتمع الجزائري وهويته الحضارية الجامعة، ومن دون تصوّر تربوي متكامل، سيجعل القرار المعلن مدخلاً مشبوهًا للتأسيس البيداغوجي للانسلاخ القيمي والأخلاقي، تحت عناوين الحداثة الماديّة والعولمة الإلغائيّة تجاه خصوصيات الأمم.

أمّا بشأن واقع “التربية الإسلامية” في طور التعليم الثانوي، فيجب التذكير أولا بأنّ التيّار التغريبي حاصرها منذ 2003 باسم “الإصلاحات” التي وُسِّد أمرُها إلى علي بن زاغو ولجنة غلب عليها المؤدلجون العلمانيّون، ثمّ تولّت كِبر تطبيقها حكومة أحمد أويحيى، بدءا من 2005.

وبموجب ذلك أغلقت شُعبة “الشريعة الإسلاميّة” أبوابها في وجه تلامذتها، لتبقى العلومُ الإسلاميّة مادة ثانوية في تحصيل الناشئة، وبمعامل ضعيف وحجم ساعي لا يتجاوز الساعة أسبوعيّا، ما جعل الشيخ عبد الرحمن شيبان، رحمه الله، يعقب بالقول إنّ “إلغاء شعبة العلوم الشَّرعية جريمة في حق الشعب ووَحدته، في وقت نحتاج فيه إلى التعريف بالإسلام وفضائلِه”.

ولم تجد الحكومة وقتها حرجًا في أن تبرّر قرارها الجائر في حقّ عماد الهويّة الوطنيّة بـ”حاجيات سوق الشغل المشبع”، وتلك كانت أكبر مغالطة مفضوحة؛ لأنّ مخرجات التعليم القاعدي للأجيال (الدين واللغة والتاريخ والثقافة الوطنية) لا تتأسس على رؤية اقتصادية محضة لسوق العمل، بل هي حاجة حضاريّة قبل كل شيء في بناء الإنسان الجزائري. ولو كانت فرص الشغل هي المعيار الوحيد في اعتماد الشُّعب التعليمية أو إلغائها، لأغلقت الحكومة مؤقتا المدارس والجامعات إلى غاية القضاء على بطالة المتخرجين.

ثمّ، هل من المنطقي أن تفتح الجزائر معاهدَ وكلياتٍ للمعرفة الإسلامية بكل علومها عبر مختلف جامعات الوطن، بينما تحذف تخصص الشريعة الإسلامية من التعليم الثانوي، ليكون رواد كليات الشريعة من تلامذة الآداب والفلسفة واللغات في أحسن الأحوال، والباقي ينحدرون من كل الشُّعب التي لا علاقة لها بالتكوين الأساسي لهذا الاختصاص؟

ولا يخفى على أحد أن جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة مثلا، كانت تستقبل قبل سنوات، ولا ندري إذا تغيّر الواقع الآن، الحاصلين على شهادة البكالوريا من كل الشعب، بما فيها التخصُّصات الدقيقة والتقنية والكيميائية والميكانيكية والكهربائية وغيرها، وفق قاعدة أنّ “الانتساب لهذه الجامعة فرصة متاحة لذوي المعدلات الدنيا”، وهذا خلل عويص في تكييف مخرجات المدرسة مع مدخلات التعليم العالي.

 ليس مقبولا استمرار هذا الاختلال الكبير في وقت تتبنّى السلطات العليا خطاب وخطّة صيانة المرجعيّة الدينية الوطنيّة بتدشين الصرح الحضاري لجامع الجزائر، ونريد صدّ الغزو الثقافي للفقه الدخيل على بيئتنا التاريخيّة وردّ الفهم الديني العليل الذي أضحى خطرا محدقا بمنظومة الأمن الفكري والاستقرار العامّ لبلادنا.

إنّ مواجهة التطرّف والانحرافات الفكريّة بكل صورها تتأسس على تكوين النخبة الدينيّة المؤهلة، وفي المقدمة منها الأئمة الأكْفاء، ما يفرض تأهيل تحصيل العلوم الشرعيّة وفق المرجعيّة الجزائريّة منذ الطور الثانوي على الأقلّ، ولا يمكن ضمان ذلك من خلال تكوين جامعي سريع عبر نظام “أل. أم. دي”، والذي يفترض فيه أن يكون مرحلة منهجيّة لا تلقينيّة.

تلك الرؤية هي ما يدفع بنا إلى إعلان التأييد المطلق لمطلب أساتذة التربية لمسؤولي القطاع بفتح النقاش مجددا حول “بكالوريا التربية الإسلامية”، عبر استرجاع “شعبة الآداب والتربية الإسلامية” الملغاة منذ 17 سنة كاملة، إضافة إلى رفع معاملها وحجمها الساعي الأسبوعي لكافة التلاميذ، لإعطاء الأهمية القصوى لهذه المادّة الرئيسة ضمن ركائز الهويّة.

أكثر من ذلك، فإنّ المأمول هو أن يرتقي الاهتمام، ولو على المدى المتوسط، إلى استحداث أقطاب جهويّة لنوابغ العلوم الإسلاميّة، أو على الأقلّ لمتفوّقي الآداب والعلوم الإنسانيّة من تلامذة الطور الثانوي، على أن تكون أقسام الشريعة جزءا منها، لأنّ التنمية بمفهومها الشامل والتكاملي السليم لا تُبنى فقط على التعليم العلمي والتقني، بل قد تكون الحاجة التعليميّة في وضع بلدان العالم الثالث لترقية روّاد العلوم الاجتماعية أولى بالرعاية من غيرهم، لأنّ التخلف الحضاري حالة ثقافيّة فكريّة نفسيّة معقدة، قبل أن يكون غيابًا لمظاهر التمدين المادّي.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • رشيد رشيد

    مقال جميل جدا ، بارك الله في الأمامل التي خطّته ، و العقل الذي صقله و وضحه.