-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ماذا يستفيد الجزائريون من كأس العرب؟

ماذا يستفيد الجزائريون من كأس العرب؟

ليس القصد من سؤال العنوان إشاعة تلك النفسيّة التشاؤمية التي تنظر دومًا، وحتّى في أسعد اللحظات، إلى النصف الفارغ من الكأس، حيث يُمعن أصحابُها في جلد الذات بسياط الفشل في ذروة النجاح والسعادة، فتجدهم يُتفّهون الأعمال الكبيرة لعجزهم عن قراءة الإنجازات في سياقها الإيجابي وعدم القدرة على صناعة التفاؤل وبث الأمل باستثمار ديناميات المجتمع وطاقاته المتدفقة.

لذلك ليس مقبولا أن يخرج على الجزائريين، وهم في غمرة الاحتفالات بالنصر الرياضي المشرّف، من يقول لهم، بلسان النكد واستكثار الفرح عليهم، إنّ كرة القدم لا تسمن ولا تغني من جوع، ولن تحلّ مشاكلكم اليومية مع البطالة والأسواق والسكن والتعليم والصحة وسواها، كأنّه يريد لنا أن نعيش أسرى الإحباط والقنوط، وكل ما حولنا من البشائر يثير فينا القدرات الكامنة للإبداع والتقدّم والريادة.

صحيحٌ أنّ فوز الجزائر بالكؤوس الكروية، من بطولة إفريقيا إلى كأس العرب، لا يشطب بنشوة الساعات وحتى الأيام أزمات الحياة المتعددة الأبعاد ليفتح أمام الشعب الجزائري أبواب النعيم والهناء، لكنه في الوقت ذاته ليس مجرد فرحة عابرة عند منْ يُحسن البناء النفسي على المنجزات، بل هو قاعدة معنويّة أساسية للارتكاز بهدف إعادة تعبئة القوى الوطنية، وخاصّة الشبابية منها، في اتجاه التحرّر من وضع الرداءة السائد وخلق روح التحدّي في مواجهة الصعاب للمرور نحو مربّع المجد.

في ظرف ثلاث سنوات، وتحديدا منذ 22 فبراير 2019، صنع الجزائريون محطاتٍ خالدة في تاريخ الاستقلال، عبر حَراك شعبي حضاري غير مسبوق وطنيّا وإقليميّا، وزعامة كرويّة قاريّة وعربيّة، قد لا تظهر آنيّا ثمرات تلك الإنجازات لمن يستعجل التغيير والخروج من دائرة التخلّف، لكن آثارها الدافعة ستتفاعل في الأعماق البعيدة، لتمسح الحزن على نفوس دمّرها اليأس، وتغرس من جديد روح العطاء في دواخلنا، بتحريك الطاقات المعطّلة تحت إكراهات الواقع.

وليتحقق الأمر المنشود، لا مناص من تلخيص دروس التتويج الجزائري المتجدد كرويّا، والتي حصل الإجماع بشأنها بين النخب والعامّة على السواء، فقد توافق الجميع على أنّ الإرادة الصلبة في بلوغ الانتصار والثقة بالنفس على تحقيقه تتجاوز حواجز المستحيل ولا تعترف إلا بالممكن في كل الظروف، وهو ما صنع الفارق الرياضي لأشبال الجزائر في مناسباتٍ كرويّة عديدة كانت فيها الحظوظ متكافئة واقعيّا.

كما يتفق المتابعون لشأن الكرة في بلادنا على أن الجديّة والانضباط والاحترافية والتزام الصلاحيات وقواعد اللعبة التي سادت روح الفريقين الأول والمحلّي، لاعبين ومدرِّبين على السواء، وعلاقة الجميع بهيئات الكرة الرسميّة، كانت من عوامل النجاح الرئيسية.

أمّا الخطة المنهجية الواضحة والتكتيك الدقيق والإشراف القيادي الذي تحلّى به المدرِّبون المؤهَّلون خلال مراحل التحضير وإدارة المباريات والمنافسات، فقد كان بلا شكّ من أسباب الانتصار، ومن دونه لم يكن في متناول الفرديّات الفنيّة أن تصنع الإنجاز الجماعي للفريق.

غير أن ذلك لا يجعلنا نغفل عن دور العناصر الفرديّة، سواء مثّلها المدرِّبون أو اللاعبون، لأنّ ما تثبته نجاحات الجزائر الكروية مؤخرا هو أن منح الفرصة للشباب الكفء كفيلٌ بصناعة الإبداع وإحراز التفوّق.

بقي كذلك الإشارة إلى أنّ بروز قيادة رياضيّة، من طراز بلماضي وبوقرة، لِمَا يتميزان به من نزاهة مهنيّة وأخلاقيّة في مسارهما الكروي والبُعد عن كل شبهات الفساد التي لوّثت الوسط الرياضي في الجزائر، قد مكّن لمُدرِّبَين طمُوحيْن من العمل بكل قوّة وحريّة، بعيدا عن ضغوط اللوبيّات الخفيّة وممارسات الابتزاز المعروفة.

ومن خلال تلك الدروس التي لم نبدع فيها شيئا سوى تقريرها، لأنها صارت حديث العام والخاصّ في الجزائر، نخلص إلى أنّ بلادنا بحاجة ماسّة إلى تعميم هذه الوصفة المثاليّة في كل قطاعات الأداء الحكومي والمجتمعي، من السياسة إلى الاقتصاد، مرورا بكل مجالات الخدمات العامّة الأخرى، لنصنع القيمة المضافة.

لقد صار يقينًا لدينا أنه من دون بثّ الأمل (الثقة بالقدرات) وفرض الانضباط (القانون والسلطات) واشتراط الاحترافيّة (الكفاءة في كل الميادين) والتخطيط العلمي (اليقظة والاستشراف) والقيادات الرشيدة (الرجل المناسب في المكان المناسب)، المسنودة بالبطانة الوطنية الصادقة، والعمل العامّ بروح الفريق المتكامل، من دون ذلك لا يمكن للجزائر أن تحقّق الوثبة الجديدة التي تصبُو إليها، وتلك هي محاولة الإجابة النهائية على سؤال البداية، لأنها، في تقديرنا، خلاصة العِبر من التتويج بكأس العرب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!