-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ماكرون و طلبة بوركينا فاسو.. العرقُ البارد!

ماكرون و طلبة بوركينا فاسو.. العرقُ البارد!

كثيرا ما نسمع المعلقين والمحللين السياسيين والاقتصاديين في الخارج، قبل الداخل، يضربون المثل في مجال سوء الحال والتخلف ببوركينا فاسو في إفريقيا وببلاد البنغال في آسيا. غير أن المتتبع لزيارة الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون في نهاية الأسبوع الماضي لبوركينا فاسو لا شك أنه اندهش عندما شاهد اللقاء الذي جمع الزعيم الفرنسي بالطلبة البوركينابيين في جامعة واڤدوڤو.

متى نستعيد ذهبَنا؟  !

دُعي ماكرون إلى إلقاء خطاب أمام طلبة الجامعة، وكان بجانبه رئيس بوركينا فاسو في المدرج. وعندما انتهى الخطاب فُتح باب الأسئلة للطلبة. يقول المنظمون أن الأسئلة المطروحة من قِبل الطلبة في الجامعات التسع البوركينابية خلال يوم واحد تجاوزت 200 سؤال. وقام الطلبة بتمحيصها ووضعها ضمن محاور، ثم اختير أربعة طلاب وطالبات من تلك الجامعات لطرح ملخص التساؤلات أمام الحضور ليجيب عنها ماكرون.

وقد أفحمت الطالبة الأولى الحضور بلهجتها الهادئة حين أعابت على فرنسا كونها ترسل إلي بوركينا جنودا فرنسيين أكثر مما تستقبل من الطلبة البوركينابيين على ترابها. وفي إجابته عن هذا السؤال، اضطرب ماكرون وانتفض قائلا : “ليس لديكم الحق في أن تقولوا أي شيء حول الجنود الفرنسيين سوى التصفيق لهم”! وزاد غضبه عندما أشارت نفس الطالبة إلى كون “فرنسا قضت على القذافي بغيرة منها، مع أن جامعة واڤدوڤو استفادت من القذافي أكثر مما استفادت من المجمعات الجامعية الرقمية (الفرنسية) التي لا تشتغل وتوظف عددا من الفرنسيين يفوق عدد الأفارقة فيها”. وبخصوص القذافي، قال ماكرون متذمرا من السؤال أنه لو كان آنذاك رئيسا لما تدخلت فرنسا في ليبيا… ويقصد هنا التدخل المباشر في القضاء على حكم الزعيم الليبي.

وفي مداخلة أخرى سأل طالب الرئيس الفرنسي : “متى نستعيد الذهب الإفريقي إلى بوركينا ومتى تتحرر عملة الفرنك الإفريقي من فرنسا؟”. فرد ماكرون باشمئزاز قائلا : “إن كان هناك ذهب في باريس فدلوني عليه…” وراح يوضح بأن العملة الإفريقية لكي تستقر لا بد لها من رصيد… وكان الطالب يعني هذا الكم من الذهب الذي تحتفظ به الخزينة الفرنسية عندها مقابل ضمانها للعملة الإفريقية. ولذا أشار الطالب إلى تحرر هذه العملة من العملة الأجنبية واسترجاع الذهب.

وفي ردوده المتوالية كرر ماكرون التأكيد على براءته مما كان يقوم به سلفه من الرؤساء الفرنسيين لأن الطلبة كانوا يحرجونه بأسئلة تعتبر كلها أن فرنسا بلد استعماري له ديْن تجاه مستعمراته حتى أنه قال في أحد ردوده : “لقد لاحظتم أن الرؤساء (الفرنسيين) السابقين كانوا يخاطبونكم بالقول “عليكم أن تفعلوا كذا وكذا… أما أنا فجئتكم بخطاب جديد…

وكانت طالبة أخرى قد أخذت الكلمة وطرحت -بلهجة الواثق من نفسه- عدة أسئلة محرجة للموقف الفرنسي. وإحراج الرئيس الفرنسي جاء من كون الطالبة نبشت في الماضي مذكرة بتورط فرنسا لحد الآن في الشأن الإفريقي.

رصيد الزعيم سنكارا

لعله من المفيد أن نذكر بأنه من أبرز من حكم بوركينا الزعيم توما سنكارا الذي ترك حكمه رصيدا ثوريا يقارنه المحللون برصيد تشي ڤيفارا في العالم الثالث. فقد كان اشتراكيا مؤمنا بمبادئ تحرر الشعوب من الهيمنة وبحقها في الطعام والشراب والتربية… وخلال حكمه الذي دام أربع سنوات نأى بنفسه عن فرنسا والتابعين لها. وفي نهاية عام 1986 هاجم سنكارا فرنسا بشدة ضمن خطاب شهير بحضور الرئيس فرنسوا متران وذلك إثر استقبالها زعماء أفارقة وصفهم سنكارا بأنهم “ملطخون بالدماء من الرأس حتى القدمين”. كما أنه رفض تسديد الديون تجاه الغرب الاستعماري، وطالب الزعماء الأفارقة بأن يحذوا حذوه وإلا لن يحضر اجتماعاتهم بعد ذلك التاريخ.

كل هذه المواقف أغضبت فرنسا وزعزعت مكانتها في إفريقيا وأزعجت الموالين لها من القادة الأفارقة، وهو ما عجّل باغتيال سنكارا عام 1987. تجدر الإشارة إلى أن زعيم ليبيريا صرح عام 2008 بأن جنوده ساهموا في اغتيال سنكارا بإيعاز من بليز كامباوري… علما أن هذا الأخير تولى الحكم في بوركينا مباشرة بعد عملية الاغتيال. وفي هذا الخضم نجد الكثير من أصابع الاتهام باغتيال سنكارا متجهة نحو فرنسا. لقد تولى بليز كامباوري الحكم مدة 27 سنة وتميز بموالاته لفرنسا خلافا لسنكارا، وتخلى كامباوري عن الحكم عندما انتفض الشارع البوركينابي عام 2014 وخلال هروبه أنقذته في الطريق طائرة عمودية فرنسية أُرسلت لهذا الغرض.  

نذكّر بهذا الأحداث لنضع أسئلة الطالبة الجريئة في سياقها حيث سألت ماكرون : “متى سترفعون طابع السرية على أرشيف اغتيال الرئيس سنكارا؟” ثم طرحت سؤالا آخر حول شقيق كامباوري الفار من بلاده أيضا والذي لا يزال ملاحقا قانونيا بتهمة الاغتيال والمقبوض عليه في فرنسا. وهي كلها أسئلة لم ترق لماكرون.

ولعل هذا الإحراج الكبير هو الذي جعل ماكرون يفقد أعصابه ويستفز الرئيس البوركينابي حتى أن هذا الأخير اضطر إلى مغادرة المدرج حين قال ماكرون مجيبا عن أسئلة الطلبة أنه ليس مسؤولا عن الكهرباء في جامعة واڤدوڤو بل رئيس بوركينا فاسو هو المسؤول عن ذلك.. ورغم “الصدمة” التي أحدثها هذا التصريح استمر ماكرون في استفزاز نظيره مخاطبا الطلبة “إنه (أي الرئيس) غادرنا لتصليح المكيّف”! وقد تناقلت وسائل الإعلام في فرنسا وغيرها هذا الحدث معيبة على ماكرون هذا السلوك المهين إزاء الرئيس البوركينابي.

واللافت أيضا أن الطلبة حثوا رئيسهم من خلال تدخل الطالبة على الحفاظ على الثقة مع المواطنين. وأضافت الطالبة إن الثقة كالطابع البريدي الذي يلصق مرة واحدة، ثم أشارت بأنه ينبغي أن يكون الحكم “توما توما” وليس “موتا موتا”! وعندما سألها الرئيس الفرنسي، قبل البدء في الإجابة، عن معنى هذه العبارات ردت الطالبة بأن الحكم “موتا موتا” يعني الاعتماد على الرشوة والفساد والصفقات تحت الطاولة، أما الحكم “توما توما” فهو الحكم المبني على الكد والعمل!

كيف لا نحيي هذا التعبير الواعي بالماضي والحاضر والمستقبل لطلبة بوركينا فاسو أمام الرئيس الفرنسي؟ إننا لنعجب أن يظل بلد يعيش في التخلف وهو يتمتع بكل هذه الحيوية والإدراك في صفوف طلابه الجامعيين!!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
17
  • iftissen

    تحياتي أستاذ . أنت تعلم لا محالة أن جامعاتنا كانت في السبعينات و بداية الثمانينات من القرن الماضي ، ورغم قلتها، تعج بهذا النوع من الطلبة الذين يحملون الوطن في قلوبهم،يومها كان الصراع في الجامعة صراع أفكار ، وتخرج حينها من الجامعة الجزائرية عشرات الآلاف من خيرة الطلبة منهم من يسيرون اليوم مخابر عالمية . بعدها وربما لخوف البعض من افرازات الجامعة أو تنفيذا لمخطط معين أنشئت جامعة في كل"دشرة" دون أن يوفر لها التأطير اللازم وهو ما أوصل جامعاتنا إلى ما هي عليه اليوم حسب اعتقادي.

  • Mohamed

    السلام عليكم استاذنا الفاضل على هذا المقال الرائع
    لقد تبينت شخصية ماكرون بانه لافرق بينه وبين سابقيه من رؤساء فرنسا وانه مؤيد للاستدمار بالرغم من ادعاءاته انه من جيل يحترم حقوق الانسان و انه سيعترف بما اقترفته بلاده من ابشع الجرائم
    اما عن اسئلة الطالبة البوركينابية واستمرارها في مساءلة ماكرون وحرية تعبيرها يدل ان الديمقراطية في بور كينافاسو بخير وبلغت مبتغاها
    نتمنى ان تكون عندنا في الجزائر لقاءات من هذا القبيل

  • جنوبي

    هؤلاء من نسميهم طلبة يحرجون رئيس من مخلفات الاستعمار و ليس طلبة ينتظرون قدوم شميسو بالاف الى جامعة بشار و كأنه رئيس دولة مدير الجامعة حضر لذلك ما لم نراه من تحضير في بوركينافاسو و مع الاسف ألغى شميسو زيارته لجامعة بشار . جامعات توما توما و جامعات موتا موتا .

  • بدون اسم

    هؤلاء الطلبة متطرفون وغير بعيد انهم ارهابيون همجيون

  • زكي

    لا حاجة للتخيل -
    و لك يا قلب في القلوب منازل - كما قال احد الشعراء

  • JJ

    A vrai dire, j'ai suivi en direct cette rencontre entre macron et les étudiants burkinabés
    C'est vrai que c'était osé, mais malgré tout je pense que c'est une pièce de théâtre bien orchestrée par macron
    N’êtes vous pas d'accord avec moi

  • مجيد

    لقد تتبعت تصريحات الطلبة البوركنابيين و لقد فوجئت بالوعي السياسي لهؤلاء الطلبة و الامر الذي زاد من اعجابي لهم هو استعمالهم عبارة l’Afrique و les africains عندما كانوا يوجهون اسئلتهم لمكرون الذي كانت علامات الغضب بادية على وجهه و حاول التهرب باستعمال اسلوب المداعبة .لقد بينت هذه الزيارة الهوة الكبرى بين الشعوب الافريقيا و الحكام الديكتاتوريين المنصبين من طرف القوى الاستعمارية الفاعلة الى يومنا هذا

  • سمير

    بارك الله فيك وفي الأم التي أنجبتك... مقال لخص الحال والمقال
    مقال لمن كان له قلب ...

  • ام كلثوم

    الف تحية لهؤلاء الطلبة البواسل فى مجال تخصصهم وهو العلم و التدفق المعرفى..هكذا تعتمد الدول على كوادر وطلاب علم حتى ولو كانت اوطانهم تعيش تحت الفقر والفاقة ..فالامم تقاس بمستوى تفوقها فى المجال المعرفى والاخلاقى لا بالمجال المادى المتوحش والحياة المترفة اللامتانهية وهنا يحضرنى قول الشاعر.."والمال ان لم تكتنفه شمائل ....بالعلم كان مطية اخفاق"
    لقد دافع هؤلاء الطلبة عن كرامتهم ووجودهم واثبتوا حبهم لوطنهم رغم اوضاعهم الاجتماعية المزرية وواقعهم المعيشى الماسوى..لكم منا التقدير والاجلال والحب والاحترام

  • ام سمية

    لقد اثلجت صدري بهذا المقال وللعلم فان الفرب يعلمون ان ثروة الشعوب الافريقية عامة و الاسلامية و العربية خاصة في شبابها لذلك يفعلون كلما في وسعهم لافساده والهائه و استغبائه

  • بدون اسم

    Très bonne question

  • لمعسكري

    الحوار الذي جرى بين الطلبة البوركينابيين والرئيس الفرنسي الحالي وما حصل في مدرجات الجامعة التي احتضنت اللقاء يذكرني بنفس الحماس الذي كان بين الطلبة في جامعة جزائرية والرئيس الراحل هواري بومدين حيث أخذ أحد الطلبة الكلمة وطلب من الرئيس المرحوم معاقبة ومتابعة كل رئيس بلدية
    من يوم تنصيبه إلى غاية مغادرة دار البلدية فرد عليه الرئيس أن هذا المير لايبقى 24ساعة في المنصب
    إن مثل هذه الجرأة النادرة علمناها لكل العالم ولا سيما لبني قارتنا السمراء نحن دائما يضرب بنا المثل في الشجاعة وأحيانا في التهور

  • بدون اسم

    الجميل في المقال هو تحاشى المعادي للهوية الجزائرية السيد ابوبكرسعدالله الاشادة بتواضع وقبول رئيس رابع اقتصاد في العالم للحوار مع الطلبة
    2=الوعي لدى الطلبة البوركينابيون هو نتيجة ومصدره اللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية..
    اراد ابوبكر ان يمرر فكرة ان فرنسا هي من خربت ليبيا !! والواقع هو العرب من خربوا ليبيا ومن لايتذكر ما قاله مسؤول عربي *قطري*شقيق لابوبكر سعدالله حول امكانية تدمير الجزائر بعدليبيا
    على السيد ابوبكر الكتابة عن العرب والابتعاد عن كل ما يمس الجزائر

  • صالح

    نحن من زرعنا هذا الجبن والخوف وعدم الثقة بالنفس والله الشعب الشجاع لو تأتي أعتى قوة في العالم لن تستطيع ان تهزمه

  • محمد

    السلام عليكم،
    بارك الله فيك استاذ...أنت تتكلم عن طلبة وليس عصابات لغلق الجامعات وتحطيم القاعات والجلوس في الساحات...أنت تتكلم عن طلبة يحبون بلادهم مثلما يبغض طلبتنا وطنهم...
    أكيد ليس كل طلبتنا ما اقصد...
    سلام

  • houari

    كل رئيس يمثل شععبه والمستوة الذي تكون فيه بلده

  • جزائري

    وأنا أقرأ المقال، كنت اتخيل نوع الأسئلة لو كان الطلبة جزائريون...زيارة شيراك وصياح الفيزا ياشيراك ليست ببعيدة.... وكذلك زيارة هولند وحادثة تقبيل اليد ...كما لا أنسى غزو الCCF من الآلاف من الطلبة في عز نوفمبر !!!

    لماذا ازداد وعي (الطلبة) البوركينابيون ...وأفلس الجزائريون الذين كانوا يوماً قدوة للأفارقة ؟؟؟