الرأي

ما الفرق بين : بيونة وجمال بن صابر وعمار بلحسن؟

أمين الزاوي
  • 8083
  • 35

عندما قال الكاتب المبدع عمار بلحسن ذات يوم وهو يواجه الألم والموت: لم تكن الجزائر رحيمة بي، أعطيتها كل شيء ومنحتني المرض والألم، كان ذلك العام 1993 .

وعندما تقول الفنانة بيونة، اليوم في العام 2012، و بعد قرابة العشرين سنة، وبلغتها الجزائرية المليئة بالعفوية وبالرسائل المشفرة، تقول ما قاله عمار بلحسن المفكر والأديب بلغة عالمة: “الجزائر أخذت مني … وفرنسا أعطتني الكثير”، عند هذين القولين علينا أن نتوقف طويلا، ففي   الأمر ما يدعو إلى الحزن والتأمل والخوف أيضا.

قبل سنوات، في بلادها حيث صنعت لسانها ونحتت موهبتها، كانت الفنانة بيونة نسيا منسيا، كان الجميع ينظر إليها كـ”حثالة” ثقافية، “رذيلة” فنية، كان الجميع من أهل القرار والحل والربط يتعامل معها كما يتعامل مع فنانة غير راشدة”، و هم في هذا التعامل الأبوي يذكروننا بتلك الصورة التي ظلت العقلية التقليدية تراكمها، في عقول الأجيال المتلاحقة جيلا بعد جيل، عن المبدع فهو: المجنون وغير المسؤول وهو الصعلوك.

ها هي هذه المبدعة، تحرك باريس بعربها وبربرها وفرنسييها وجميع الأجناس التي فيها، تسحبهم إلى مسرحها، وتلعب بالشباك المغلق.

حين تعطيها باريس، وهي في هذا العمر المتقدم، شهادة ميلاد جديدة، ستعود ذات يوم قريب، وسيحتفي بها البعض ويفرش لها الزربية الحمراء وتتسابق وسائل إعلام الدولة والخواص للفوز بحديث “حصري”!! من صاحبة الجلالة، وفي المقابل سيهاجمها رهط آخر، ليقول عنها إنها صناعة فرنسية وأنها من “حزب ثقافة فْرانْسا” وهي المبدعة التي دون تردد ولا خوف، بل بجرأة إبداعية مثيرة غير مسبقة تمارس التكسير في اللغة الفرنسية لتغمرها بلغتها الجزائرية الطافحة بالشعرية والحرية.

وأنا أتابع ما تحققه بيونة اليوم على المسرح الباريسي أتساءل كما تساءلت ذات يوم وأنا أكتب عن المبدع عبد القادر السيكتور: لماذا لم تملأ هذه الفنانة مسرح العاصمة أو المسارح الأخرى جمهورا يشبه ذلك الذي غص به مسرح باريس، وهو كثير في بلادي؟ إننا لم نخرج بعد من عقلية “ثقافة الإعانة والمعونة” Assistanat التي حولت الدولة إلى (بقرة حلوب)، هذه “الإعانة أو المعونة” l?assistanat تذكرنا بسنوات التسيير الاشتراكي للمؤسسات، سنوات مسرح تحت الطلب، مسرح الديماغوجيا والبروباغاندا، مع تغيير بسيط في شكل لغة البروباغندا، لُوكْ جديدي لسلوك قديم، أتابع هذا الذي يجري وأنا حزين، بعد خمسين سنة من الاستقلال لم نتخلص بعد من ستالينية “ثقافة السبعينات” حيث الدولة (ومفهوم الدولة هنا لا يختلف عن مفهوم السلطة والنظام) هي كل شيء، وهي فوق كل شيء، شريك المواطن حتى في اختيار أبيه وأمه وفي برمجة حلمه وفي وسادته التي عليها يُصْنَع هذا الحلم، هذا الحال المتميز بهيمنة “ثقافة الاعانة السبعينية” يجعل مسارحنا معرضة لغلق أبوابها (الموصدة أصلا) بمجرد رفع “البيبرون” من فم الممثلين” الذين سيموتون جوعا والشيء نفسه بالنسبة للناشرين وأصحاب السينما أو “السُّوليما”؟

كما أننا لم نتمكن على المستوى السياسي، وعلى مدى خمسين سنة من الخطب الاستقلالية، من خلق مواطن سوي قادر على مواجهة أيامه بجده وذكائه وعمله، كذلك لم نستطع أن نصنع مثقفا مبدعا قادرا على الحلم والاجتهاد والنقد والمعاصرة في التفكير، إننا شعب بعامته وخاصته نعيش كمعوقين، أو بلغة أكثر رقة: كشعب ذي احتياجات خاصة.

ألم ينتبه هؤلاء الذين يتحدثون عن إنتاج المئات من المسرحيات سنويا إلى الممثلة بيونة ومن خلالها كان بإمكانهم أن يعيدوا للمجتمع ثقافة الشباك وللمسرح الحياة وللمواطن المواطنة؟ لقد انتهى زمن المجيء إلى المسرح بـ”الدعوة” و”التحشام” والترجي بالتليفون وشحذ المتفرجين!!! المسرح شباك، رزق و فن و صناعة، ورزق الممثلين في هذا الشباك الصغير، هكذا نتعلم الدرسَ الذي حفظه وآمن به وعمل به شيوخ المسرح الجزائري من رشيد قسنطيني وبشطارزي وربما آخرهم كاكي.

وأنا أتابع ما تحققه الممثلة بيونة في بلاد الفرنسيس، أتساءل وأنا حزين ما يعيشه المسرح من برودة المفاصل الدائمة طوال أيام السنة وليكتفي بـ”سخونة اصطناعية” أيام المهرجانات والزردات وأقول: متى نخرج من هذا النفق الذي أضحى كالقضاء والقدر؟

تذكرت عفوية بيونة وقولها: “الجزائر أخذت مني … وفرنسا أعطتني الكثير” وأنا أقرأ خبر مرض المبدع الصديق جمال بن صابر، الذي أعرفه منذ ربع قرن، أعرفه شعلة المسرح، تلميذا حقيقيا (أو بالمصطلح الأكثر عمقا قندوزا حقيقيا) لولد عبد الرحمان كاكي (1934 ـ 1995). أذكر أنني حضرت لأول مرة مهرجان مسرح الهواة بمستغانم، كان ذلك نهاية السبعينيات، كنت صحبة القصاص عمار بلحسن وبلقاسم بن عبد الله وعبد الحميد حيفري وكمال بندي مراد وعز الدين بلكدروسي، وكان لدورة المسرح هذه سلطانان وأمير، فأما السلطانان فهما: جيلالي بن عبد الحليم (مؤسس مسرح الهواة بمستغانم توفي العام 1990) وولد عبد الرحمن كاكي وأما الأمير فكان ذاك الشاب الصاعد جمال بن صابر بلحيته الصوفية وانخطافه الإبداعي الدائم.

وأنت طريح الفراش يا أيها الأمير، يا جمال بن صابر، أتمنى أن لا تقول ما قاله القصاص عمار بلحسن: “لم تكن الجزائر رحيمة بي…” ولا ما قالته بيونة: “الجزائر أخذت مني … وفرنسا أعطتني الكثير” أن لا تقول: “المسرح أخذ مني الكثير… و …”.

كل شيء من حولك يا صديقي تغير إلا إيمانك بالمسرح فقد ازداد وفاض وتعمق حتى وصل ضفاف المرض، تمنياتي لك القيام بسرعة من هذا العطب والعودة سريعا إلى الخشبة، يا ذا المسرع دائما، المتلهف كالعاشق أبدا، أيها المتصوف بحب المسرح وحب الجزائر.

مقالات ذات صلة