الرأي

ما بالكم؟ لمَ كل هذا الجبن؟

صالح عوض
  • 956
  • 6
أرشيف

مشهدان وقفا أمام عقلي ونظري بقوة حضور عجيبة تفرضان عليّ التدبر والتأمل الطبيعي والفطري.. فكان لابد من تقديمهما للقارئ العزيز.

إذا حل الجبن بفرد أصبح تبعا لما يمليه عليه قاتله مستسلما يمد عنقه للمقصلة وظهره للسياط ويدخل زنزانته يغلق بابها عليه بيديه.. وإذا حل الجبن بفرد سلم أولاده للقتلة وماله للصوص بل وأوشى بأهله وبخبايا نفسه.. والحال هذه لا تقف عند فرد بل تنتشر في أمة قد حط عليها الهوان، فلقد حكت لنا قصص التاريخ كيف كانت امرأة مغولية تستوقف عشرات الرجال من المسلمين وتأمرهم بأن ينتظروا لتعود إليهم برجل مغولي يقتلهم فردا فردا.

أذهلني قبل مدة وأنا أتابع فيديو لمجموعة من الثيران الوحشية، وقد هجم أسد على أحدها فكاد يفترسه ولكنها أسرعت تتناوشه بأرجلها وتعضه بما تستطيع، وبعد معركة ضارية استسلم لهزيمته وانسحب وأعتقدُ أنه سيروي قصته للأشبال جميعا بل لأسود الغابة أن ابتعدوا عن هذا الصنف من الحيوانات.

أذهلني المشهد وراعتني المقارنة وتذكرت العرب والمسلمين لماذا يختارون سبيل الخراف وهي تسير نحو مذبحها ولا تنتفض على جلادها مثل الثيران المتوحشة فتشتبك مع الأسود الضارية تدفع عن نفسها موتا محققا؟ وفيما أنا أتأمل وأقارن أصابني شيء من الإحساس بأن هناك ما هو أعمق في وجدان الأشخاص الذين يسيرون بالأمة اليوم إلى مذابحها..

ظن بعض العرب والمسلمين إن هم سلَّموا فلسطين للصوص الصهاينة أنهم سيكونون في منجى من المكيدة الاستعمارية.. وظن بعض الحكام أنهم إذا ماذا قدّموا الدليل على عدم صدامهم مع مشروع إسرائيل أنهم بذلك ينالون رضى الاستعماريين الكبار إلى درجة أن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق بيل كلنتون يقول: “لقد قمت بإحدى جولات زياراتي إلى المنطقة العربية فالتقيت بأربعة عشر زعيما عربيا لم يكلمني أحدُهم كلمة بخصوص فلسطين”.. بل يكون هناك من هو أسوأ من ذلك؛ فهناك زعماء عرب قدّموا اقتراحات للأمريكان بخصوص فلسطين يستحي الصهاينة أن يقدِّموها فلقد سبق لغولدا مايير أن عاشت أسوأ أيام حياتها عندما أحرق متطرف صهيوني منبر صلاح الدين في المسجد الأقصى، إلا أنها مع مضيِّ اليوم الأول بهدوء عربي وإسلامي شعرت بأنها تتنفس بعمق إذ أدركت أنها أمة قد ماتت.

الآن عمليات التطبيع التي يقوم بها معظم النظام العربي وبشكل سافر ورديء لا تعني إلا شيئا واحدا؛ أن التسارع في إظهار المودة لإسرائيل بلغ مدى سقطت فيه كل الأقنعة وكل عناوين الكرامة والسيادة.. ولكن الذي قد لا يعرفه هؤلاء المطبِّعون أن إسرائيل والاستعماريين الكبار مثلهم كمثل جهنم كلما ألقي فيها وقودٌ قالت هل من مزيد؟ إسرائيل لن تكتفي بأن تصدِّر لهم بضائع أو تنسِّق أمنيا أو تتحالف مع بعضهم ضد بعضهم الآخر، إنما ستدخل عليهم تفكك مجتمعاتهم وتضع بذور التفرقة بين مكوِّناتهم، ويكفي إلقاء نظرة إلى كل مشكلة في بلادنا العربية فإننا حتما سنجد أن الأساس فيها إنما هو الأجهزة الأمنية الصهيونية.. فكل مظاهر الفتن والتصارعات الإثنية والمماحكات بين التيارات والأحزاب والقوى الاجتماعية إنما هي مجالٌ رحب لعمل الأجهزة الأمنية الصهيونية.. فالتطبيع لا يقف عند حد التجارة والسياسة والتنسيق الأمني بل هو ينخر مجتمعاتنا ويبدّد تجمعها ويفتّ في عضدها.. ثم بعد ذلك يصبح وجود الزعيم العربي إنما هو محل تفكير العدو ورضاه.. فيصبح وضعُنا بهذه الطريقة موتا زؤاما وتخلفا وتبعية لا فكاك منها.

من هنا أعود لتدبّر قصة الخراف والثيران الوحشية: ماذا لو قامت الخراف بعملية انتحارية وتجمّعت في مواجهة الذئب؟ وماذا لو احتشد أولئك الكباش ذوو القرون المعقوفة أو المكسورة وكلما جاء ذئب هبت إليه بكل قوتها من كل جهة تنطحه حتى توقعه أرضا وترفسه من كل جانب؟ إن عواءه حينذاك سينبِّه كل ذئب بأن المسألة ليست سهلة وأن هذا الدرب ليس آمنا..

إنه لا يليق بهؤلاء الرعاديد مثلا إلا الخراف التي تقود نفسها إلى المذبح لأنه لا منطق ولا عقل ولا خلق ولا دين يسمح لها بتسليم فلسطين وأهلها والقدس والمسجد الأقصى للصهاينة، وأن تسلم نفطها وثرواتها للعابثين بمصيرنا، وأن تسلم كرامة بلداننا وسيادتها للمجرمين الغزاة خوفا من ضياع الكراسي والسلطان..

الآن بعد التطبيع حصل التنسيقُ الأمني وتشكيل الأحلاف العسكرية وتمّ اختراع عدو استراتيجي للأمة.. وبعد هذا أيضا أصبحت البلاد مفتوحة للصهاينة يقومون في مجالات شتى بتكريس صهينة كل شيء وإعادة صياغة روايتنا عن أنفسنا فأصبحوا هم من يكتب تاريخنا، وهم من يرسم تعليمنا ونحن نموت قهرا أو نستسلم للنذالة.

إن الواجب ليس محصورا في طبقة معينة بل كل الطبقات معنية بالرد والتصدي له، فالإعلام رغم معاناة الإعلاميين والمطاردات التي تلاحقهم كما الحزبيين ورغم تهميشهم كما النقابيين واتحاداتهم فإنهم جميعا سيكونون في عمق المعركة للدفاع عن حمى الأمة.

إن الجبن الذي أصاب السياسي تمدد في ثقافتنا وحياتنا السياسية جملة وفي نخبنا السياسية، فلم تعد الأحزاب ولا علماء الدين ولا المثقفون على قدر المسؤولية التاريخية بل اخترعوا لهم معارك وهمية يتلهون بها أو يتسلون كي يبرروا لأنفسهم انصرافهم عن معارك الوجود التي عليهم النهوض بها..

إن ما يجري الآن في منطقتنا العربية ليس سببه فقط الأنظمة الرديئة ولكن أيضا المثقف الفاسد والحزبي المعقد والجمعوي التاجر والناس اللاهين.. إننا في معركة كبيرة لا يمكن أن ننتصر فيها دون قوَّة حقيقية أساسها الشعور بالعزة القومية والإسلامية والحضارية والتحرر من الجبن والإيمان بالوحدة والانطلاق من هذا كله نحو مواقف عزيزة كريمة على صعيد الشخص والمجتمع والقيادة. كان الله في عوننا.

مقالات ذات صلة