-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ما يطلبه القائمون!

سلطان بركاني
  • 380
  • 0
ما يطلبه القائمون!

مع بزوغ هلال رمضان، من كلّ عام، يتجدّد الحديث حول تنوّع قراءات أئمّة التراويح في بيوت الله، بين الطّول والتوسّط والإسراع، ويشتهر أمر الأئمّة الأسرع قراءة بين النّاس، لتُمسي مساجدهم قبلة أفواج متتابعة من المصلّين الذين لا يهمّهم إلا أن يكون الوقت بين تكبيرة الإحرام الأولى وتسليمة الوتر الأخيرة أقصر ما يمكن، لينطلقوا بعدها إلى المقاهي التي يقضون فيها ساعات طويلة لا يعتريهم فيها ملل ولا ضجر، ولا يهتمّ الواحد منهم بساعة أو وقت!

في المقابل، تعرف المساجد التي يتولّى الإمامة فيها أئمّة حسنو الصّوت يهتمّون بأحكام الترتيل، عزوفا كبيرا من طرف المصلّين، تبدأ مساجدهم عامرة في الليالي الأولى، لكنّها ما تلبث حتى تمسي صفوفها تعدّ على أصابع اليدين! وهي الظاهرة التي تشهدها حتّى المساجد التي يؤمّ فيها مشاهير القراء، وإن كان بشكل أقلّ، ورواد هذه المساجد كثير منهم يطلبون في الصّلاة الطّرب بصوت الإمام والتمايل معه أكثر ممّا يطلبون الخشوع مع معاني الآيات!

صحيح أنّ التغنّي بالقرآن مطلوب، لكن من دون مبالغة تذهب بهيبة القرآن، وتسوّي بين قارئ القرآن ومردّد الألحان! ولهذا حذّر النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- من الاهتمام بصوت القارئ مع غياب الخشوع والخضوع، فقال: “بادروا بالأعمال ستا: إمارة السفهاء، وكثرة الشرط، وبيع الحكم، واستخفافا بالدم، وقطيعة الرحم، ونشؤ يتخذون القرآن مزامير يُقدّمون أحدهم ليغنيهم، وإن كان أقلهم فقها” (صحيح الجامع).

يسنّ للإمام أن يهتمّ بتحسين صوته وإعطاء كلام الله حقّه، لكن ليس بالمبالغة في التغنّي والترنّم.. ويتوجبّ على الإمام -في المقابل- أن يهتمّ بتكثير جماعة المسلمين ويحرص على تعرّضهم لخيرات وبركات القيام في رمضان، وأن يرفق بهم ويراعي حال ضَعفتهم، فليس من الحكمة أن يقرأ الإمام بالتحقيق مثلا ويقلّد الشيخ عبد الباسط عبد الصّمد أو الشيخ الحصري، في قراءته، ويتعمّد تكرار الآيات؛ ومن يفعل هذا من الأئمّة يصحّ أن يخاطَب بقول النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم-: “أفتّان أنت يا معاذ” (البخاري)، وقوله -عليه الصّلاة والسّلام-: “إذا صلى أحدكم للناس فليخفف؛ فإنّ فيهم الضّعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء” (البخاري ومسلم).

لكنّ التجربة أثبتت أنّ كثيرا من رواد المساجد لا يمكن إرضاؤهم؛ فكلّما أسرع الإمام في قراءته، تاقت نفوسهم إلى الإسراع أكثر، وكلّموه بهزل ممزوج بالجدّ راجين مزيدا من السرعة. وهؤلاء في غالبهم من فئة الشّباب والكهول الذين يفترض أن يكونوا أقدر النّاس على طول القيام وأحرصهم عليه!

المؤسف أكثر في الموضوع أنّ بعض الأئمّة يستجيبون طوعا لما يطلبه القائمون المستعجلون فيتعمّدون الإسراع في القراءة إلى الحدّ الذي يجعل تلاوتهم هذرا غير مفهوم، كلّ ذلك حتّى يحافظوا على جموع المصلّين، وتبقى مساجدهم عامرة إلى آخر ليلة من رمضان، بل إنّ بعض القراء -وهؤلاء قلة- يتعمّد الإسراع حتّى تكون الأعطيات التي ينالها في آخر رمضان في مستوى ما يرجوه وتصبو إليه نفسه!

ربّما ينسى بعض الأئمّة أنّهم مطالبون بالتوسّط ومستأمنون على ما ينفع المأمومين وليس ما يعجبهم. كما ينسى كثير من المصلّين أنّ صلاة التراويح ما سميت بهذا الاسم إلا لأنّ الناس كانوا يحتاجون إلى الراحة بعد كلّ ركعتين من ركعاتها لطول قيامهم. وأنّها سميت قيام رمضان لطول القيام فيها. وأنّ الأجر فيها يعظم ويضاعف كلّما طال القيام، وأنّ صاحب العذر في وسعه أن يصليها جالسا وأجره كامل تامّ، بل في وسع الصحيح المعافى أن يصليها جالسا وينال نصف الأجر.

إنّنا لو صدقنا مع أنفسنا لقلنا إنّها القلوب المشغولة بما بعد التراويح، هي التي تحملنا على طلب التخفيف في هذه الصلاة، ولو أنّ هذه المشاغل كانت من الضروريات أو حتى الحاجيات، لكان من واجب الأئمّة أن يراعوا الواقع، ولكنّها مشاغل تحوم حول جلسات المقاهي ودورات كرة القدم.. من حقّ الصّائم أن يرفّه عن نفسه بالمباح، لكن أن يمتدّ وقت الترفيه لساعات متتابعة بعد ساعة تراويح يصليها المصلّي وكأنّ تحت قدميه جمرا، فإنّ الأمر يستدعي مراجعة للقلوب، ولو أنّ القلوب فرّغت من همّ المشاغل، وشغلت بهدف سامٍ هو سماع كلام الله كلّه في ليالي رمضان بصوت حسن وتدبّره والاستشفاء به، لكانت الحال غير الحال.

في ترجمة “عماد الدين إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي” في “ذيل طبقات الحنابلة” لابن رجب الحنبلي -رحمه الله- عن أبي عبد الله محمد بن طرخان، قال: كنّا نصلي يوما خلف الشيخ العماد (إبراهيم بن عبد الواحد) وإلى جانبي رجل كأنّه كان مستعجلا، فلمّا فرغنا من الصّلاة، حلف لا صلّيت خلفه أبدا، وذكر حديث معاذ، فقلت له: ما تحفظ إلا هذا؟ ورويت له الأخبار التي وردت في تطويل صلاة النبي -صلّى الله عليه وسلّم.. ثمّ إنّي قعدت عند الشيخ العماد، وحكيت له، وقلت له: أنا أحبّك، وأشتهي ألاّ يقال فيك شيء، فلو خفّفت؟ فقال: “لعلّهم يستريحون منّي ومن صلاتي قريبا.. يا سبحان الله! الواحد منهم لو وقف بين يدي سلطان طول النّهار ما ضجر، وإذا وقف أحدهم بين يدي ربه ساعة ضجر”!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!