-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مبادئ التربية الحديثة ونظرية الحفظ (2/2)

خير الدين هني
  • 984
  • 0
مبادئ التربية الحديثة ونظرية الحفظ (2/2)

تختلف التربية الحديثة عن التربية القديمة في كونها تعتمد على علم النفس التجريبي، وهو العلم الذي استقلّ عن البحوث الفلسفية وأصبح علما قائما بذاته وله فروع كثيرة، من أهمها علم النفس التربوي وعلم نفس الطفل الذي هو فرع من علم النفس التربوي، فعلم النفس التربوي ينظّر لعلوم التربية وأصولها وقواعدها وفي تطابق المناهج والكتاب المدرسي وطرق التدريس ونظام التقويم مع النظريات النفسية،  ومدى تأثير الكتب والمواد الدراسية على المتعلمين، وعلم نفس الطفل يختص بمشكلات الطفولة وعوائق النمو والتعلّم والأمراض الجسدية والنفسية، واضطرابات السلوك، منذ الولادة وحتى مرحلة البلوغ والمراهقة، وتشمل نطاق دراسته كلًّا من المهارات الحركية، والنمو المعرفي، والمهارات اللغوية، والنمو العاطفي، والتأثيرات الاجتماعية، وما إلى ذلك.

وجدوا أن أنشطة التفكير لا علاقة لها بأنشطة الحفظ، وأن الحفظ لا ينمي قدرات التفكير والإبداع، لذلك ألغت التربية الحديثة تقنية حفظ كل شيء، وتركته موقوفا على بعض القوانين والنظريات والقواعد والمقطوعات الشعرية والأدبية والفنية، وأولت أهمية كبرى للأنشطة العقلية التي تحفّز التفكير وتصقل الموهبة وتشحذ القريحة وتنمي المهارات والإبداع.

والتربية الحديثة حين تنظّر للتعليم والتربية لا تخمّن المعرفة النفسية للطفل ولا تحدسها حدسا، ولا تعمل بمفردها في التنظير والتأسيس والتقعيد، كما كان شأن التربية القديمة، وإنما تعتمد على نتائج التجريب للدراسات النفسية التي تجرى في المخابر وورشات التجريب، وتشترك مع نظائر لها من صنوف المعرفة ممن لها صلة بحياة المتعلمين كالألسنية وعلم الاجتماع…

ولذلك تبني فرضياتها على حقائق نفسية وتربوية موثقة بالتجربة والملاحظة والاستقراء والاستنتاج، وحقائقها قريبة إلى حد كبير من النسبة المطلقة، ونظرياتها مازالت ثابتة منذ ظهورها ولم تتغير، لأنه لم يظهر ما يدحضها ويبطل وجودها، والتغيير الذي يظهر على المقاربات الجديدة إنما هو تغييرٌ يمس الجوانب التقنية والفنية فقط، وليس النظريات الكبرى، فنظريات التعلّم الشهيرة التي ظهرت في بداية القرن الماضي بالتجربة، مازالت هي المعتمدة في النظم التربوية اليوم، كنظريات: (التعلّم بالمحاولة والخطأ والتعلّم بالاستبصار والتعلّم الشرطي)، كل ذلك حدث بعدما أصبح علم النفس علما تجريبيا متأثرا بالعلوم التجريبية والتطبيقية، فتأسَّست على إثر ذلك مدارس نفسية وتربوية أجرت تجاربَ مكثفة على الأطفال والحيوانات، كي تدرس طرق تفكيرهم وأساليب تكيّفهم مع بيئاتهم الجديدة ووضعيات التعلّم المختلفة، وكذلك لدراسة الفروق الجنسية بين نظريات التعلّم لدى الإنسان ونظريات التعلم عند الحيوان، وحينها تم الاستنتاج بأن التربية القديمة كانت في واد وحقيقة المتعلمين النفسية والتعلّمية في واد آخر.

الطفل رجلٌ صغير:

كشفت التجارب أن الطفل ليس كائنا قاصرا عن الإدراك والوعي والتبصر، كما كانت تعتقد التربية القديمة بالحدس والتخمين، وإنما هو رجلٌ صغير يفكّر ويدرك ويعي، ويمتلك  قدرات ذهنية متوقدة وله اتجاهات وميول ورغبات وإحساسات ودوافع، ويسعد ويتألم ويفرح ويحزن ويفكر ويتخيل ويتصور ويدرك، وله مواهب متعددة تمكّنه من اكتساب أي قدرة أو مهارة تتناسب مع نضجه العقلي والزمني، وتستجيب لاحتياجاته العقلية والنفسية والاجتماعية.

تشريح الدماغ ساعد التربية على فهم قدرات الطفل:

ومما ساعد التربية الحديثة على فهم طريقة تفكير الإنسان وتكلمه وتخيّله وحفظه وتذكّره، هو علم التشريح، فبعد تشريح الدماغ الإنساني وجدوه ينقسم إلى مناطق مختلفة بعضها مخصصة للتفكير والتخيل والإدراك وبعضها مخصص للكلام، وبعضها للحفظ والتذكر… وهكذا. وجدوا أن أنشطة التفكير لا علاقة لها بأنشطة الحفظ، وأن الحفظ لا ينمي قدرات التفكير والإبداع، لذلك ألغت التربية الحديثة تقنية حفظ كل شيء، وتركته موقوفا على بعض القوانين والنظريات والقواعد والمقطوعات الشعرية والأدبية والفنية، وأولت أهمية كبرى للأنشطة العقلية التي تحفّز التفكير وتصقل الموهبة وتشحذ القريحة وتنمي المهارات والإبداع.

خطأ التربية القديمة:

وخطأ التربية القديمة أنها كانت تعتبر الحفظ آلية من آليات تنمية القدرات الذهنية، لأنها كانت تعتبر التفكير المنطقي واللفظي والذاكرة ومراكز الإحساس والانفعالات والتذكر والتخيل والتصور والانتباه و الإدراك والكلام، عمليات عقلية واحدة وإن اختلفت في الوظائف، وهي تصدر عن النشاط الذهني بوظيفة دماغية واحدة، أي: إن التصور القديم للتشريح العقلي النظري كان يعتقد أن الدماغ يعمل ككتلة واحدة تصدر عنها كل العمليات العقلية (القدرات والمهارات والإحساسات والانفعالات والتنسيق والتوازن الجسدي)، ولكن البحوث الحديثة التي أجريت على الدماغ من خلال تشريح أدمغة الحيوانات والإنسان، أثبتت أن الدماغ  هو أقوى عضو لدى الإنسان بالرغم من كون وزنه يساوي حوالي 1.5كلغ فقط.

ووجدت أن أدمغة العباقرة والمتفوقين تختلف عن أدمغة العاديين في الروابط الطويلة والقصيرة داخل القشرة الدماغية (تسمى المنطقة الرمادية)، بينما هذه الروابط عند العاديين متساوية، وأن الدماغ له ثلاثة أجزاء رئيسية، هي: المخ وهو الجزء الذي يملأ الجزء الأكبر من الجمجمة، وهو مقسم إلى فصوص كل فص يؤدي وظيفة معينة، كالتفكير والتذكر وحل المشكلات والشعور والسيطرة على الحركة، والمخيخ الذي يقع خلف الرأس تحت المخ ووظيفته السيطرة على التنسيق والتوازن، وجذع الدماغ وموقعه تحت المخ وأمام المخيخ، وظيفته التوصيل بين  الدماغ والنخاع الشوكي، وله وظيفة السيطرة على الوظائف غير الإرادية كالتنفس والهضم، ومعدل نبضات القلب وضغط الدم.

وقد أجريت التجارب بتخريب مناطق دماغ الحيوانات منطقة بعد منطقة، ثم يدرس السلوك العامّ للحيوان بعد تخريب ذلك الجزء، أما التجارب على مخ الإنسان فكانت من طريق المسح الكهربائي والرنين المغناطيسي، أو بتشريح أدمغة العباقرة بعد الوفاة بإذن مسبق، وكانت النتائج  تخالف تماما ما كانت تعتقده البحوث القديمة، وهي البحوث التي بُنيت عليها فلسفة التربية وطرائقها ونظم تقويمها.

ودراسة البنية العقلية والسلوكية للإنسان بالتشريح والملاحظة والمعاينة، والوقوف على حقيقة هذه البنية ووظائفها، هو ما جعل كبار المربين والنفسانيين يعيدون النظر في أنماط التربية القديمة، فكان أن أسسوا فكرا تربويا جديدا قائما على حقائق ثابتة أو قريبة من الثبوت بنسبة عالية، وحينها أدركوا أن أهمية التربية الحديثة يجب أن تخالف الطرق النظرية والتركيبية للتربية القديمة، وأن تتساوق مع الطبيعة البيولوجية والنفسية للإنسان، كما أدركوا أن عواقب التربية تزداد خطورة حين لا ندرك أهميتها في بناء الإنسان وتقويم فكره وسلوكه، وأن التربية تنوط بتنمية قدرات الإنسان وما يتعلق بتربيته العقلية والوجدانية والجسدية، وتهذيب سلوكه وأخلاقه وطرق تعامله مع غيره، من الأهل والأقارب والجيران والمجتمع الإنساني الذي يعيش فيه، ويتعامل معه في وطنه أو خارج وطنه، ومع البيئة الطبيعية التي يحيا فيها ويتحرك.

ومدى ما يتركه  هذا التعامل من أثر طيب محمود إن كان جميلا، أو ما يتركه من أثر سلبي مرذول إن كان قبيحا، وأن هذا الأثر هو من يحدد معدن الفرد وقابليته للتربية والتكوين والتوجيه، وطريقة تفكيره ونظام حياته وأخلاقه وطبيعة تعليمه وتعلّمه وتربيته، ومستوى الفرد التعليمي والأدبي والأخلاقي هو ما ينعكس على سمعته وسمعة أهله ووطنه.

مبادئ التربية الحديثة:

ولما كانت التربية الحديثة مؤسسة على مبادئ نفسية وتربوية صحيحة، اعتمدت طرقا كثيرة ومتنوعة للتدريس، لأن تنوع الطرق وتعددها ضرورة ملحة تستدعيها طبيعة التعلّم المتشعبة، وتتطلبها الفروق الفردية للمتعلمين، ولذلك جعلت الحفظ استثناء للنصوص الدينية لقداستها وكون حفظها تعبُّديا يؤجر عليه، وتركت الاختيار لحفظ ما يلائم ذوق كل متعلم من القطع الأدبية، أو ما هو ضروريٌّ من حفظ القوانين والنظريات لأهميتهما في إدراك وضعيات التعلّم وتبصّر مجالها، وتهافت الطلبة اليوم على حفظ الخلاصات والقواعد والاستنتاجات لاسترجاعها في أسئلة المقال التي مازالت وزارة التربية تعتمدها في الامتحانات، هو البرهانُ على أن التعليم عندنا مازال يمارَس بالطرق التقليدية وإن تظاهرت الوزارة بالإصلاح، وهذا هو الأمر.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!