متاهات السلاح الكيماوي في سوريا!
لم يبق أمام النظام السوري إلا استعمال الكيماوي من أجل العودة إلى عمل بعثات المراقبة والمفتشين الدوليين التي تغرق الوضع في متاهات كثيرة لا حدود لها. هذه حقيقة ثابتة ومتوقعة كثيرا من خلال دموع التماسيح التي ظلّت تذرفها روسيا ومعها إيران ونظام الأسد على كل بعثة تغادر التراب السوري منذ بعثة الجامعة العربية بقيادة الفريق أول الركن محمد أحمد مصطفى الدابّي.
لقد كان الجنرال الدابي محظوظا للغاية على عكس كوفي عنان أو حتى لخضر الإبراهيمي، فهو لم ينتقد أبدا من النظام السوري، ولا يزال يرثيه ويتباكى على تقريره سواء في الأمم المتحدة أم غيرها. حتى وزير خارجية روسيا لافروف في كل مرة يوجه أصابع الاتهام إلى المجتمع الدولي الذي أفشل بعثة الجامعة العربية ولم تهتمّ بتقريرها والذي جاء في صالح النظام السوري قلبا وقالبا.
.
لعبة الكيماوي القذرة
جرى استعمال الكيماوي عدة مرات وآخرها مجزرة الغوطة التي وقعت في 21 أوت المنصرم. الكثيرون تحدّثوا عما وصفوه بغباء النظام السوري في استعمال الكيماوي مع بداية وصول المفتشين الأمميين للتحقق من استعمال الكيماوي بخان العسل في 19 مارس وبموقعين آخرين تتحدث مصادر عديدة أنها الطيبة بريف دمشق، موقع آخر بحمص.
كما يوجد من يرى أن استعمال الكيماوي هو تحدّ من طرف بشار الأسد لخطوط أوباما الحمراء، وأيضا للمجتمع الدولي الذي وقف عاجزا أمامه وهو يقترف أبشع مجازر القرن منذ مارس 2011 في حق الشعب. لكن الحقيقة ليست هذا ولا ذاك، وقد كنت ربما أنا الوحيد من غرّد خارج هذا السرب عبر فضائيات عديدة ويوجد من وضع علامات استفهام كثيرة على تصريحاتي ووصفها بأنها بعيدة عن الواقع.
ليس غريبا على نظام بشار الأسد القيام بعمليات معينة تسبق وصول البعثات وحتى أثناء وجودهم. حدث هذا مع بعثة مراقبي الجامعة العربية حيث سبق وصولها تفجيرات بسيارات مفخخة في دمشق. وأيضا استقبل الفوج الأول بساعتين قبل زيارته الأولى لحمص بقصف لحيّ بابا عمرو أدى إلى سقوط أكثر من ثلاثين ضحية، وذلك صباح 27 ديسمبر 2011. وأثناء الزيارة تمّ قصف حيّ بابا عمرو بالدبابات والهاون وبوجود المراقبين أنفسهم، مما دفع بالدابي، ومن قلب بابا عمرو، إلى أن يستنجد بالأمين العام للجامعة العربية السيد نبيل العربي. وأيضا تحدث إلى نائب وزير الخارجية فيصل المقداد. واضطر الفوج تحت ضغط القصف إلى العودة إلى قصر محافظ حمص اللواء غسان عبدالعال، غير أن هذا الأخير أنكر كل شيء. وعندما حدثت مناوشات لفظية بينه وبين الجنرال الدابي حاول تهدئة الوضع ووعد بالتحقيق في القضية بالرغم من أنه لم يستبعد مطلقا قيام من يسميهم بالجماعات المسلحة الإرهابية بهذه “المسرحيات” من أجل الإساءة إلى الحكومة مع بعثة الجامعة العربية وإفشال مهمتها. الأمر نفسه حدث أيضا مع بعثة مراقبي الأمم المتحدة فقد تعرضوا لإطلاق النار. وأيضا حدثت مجازر قبل وصولهم، وفي وجودهم، من بينها مجزرة الحولة الشهيرة، التي وقعت في 25 ماي 2012.
لقد كان النظام السوري يريد عبر بعثة مراقبي الجامعة العربية الشهود الأجانب الذين يسوّق من خلالهم للعالم أن ما يحدث في سوريا هو بسبب جماعات إرهابية تابعة لتنظيم “القاعدة” وليست ثورة شعبية ضد نظامه. وهو الأمر نفسه الذي حاول التسويق له عبر بعثة كوفي عنان المبعوث العربي والدولي للأمم المتحدة الذي اضطر إلى الاستقالة بعدما لم ينجح في أي خطوة ولو صغيرة من خطّته ذات البنود الستّة.
فشل بعثة مراقبي الجامعة العربية وبعدها بعثة الأمم المتحدة، كان يقابل ببكاء من قبل نظام بشار الأسد وروسيا وإيران. وظلت موسكو في كل مرة تتحدث عن ضرورة وجود مراقبين على الأرض، بل تتأسف دائما على فشل هذه المهمات التي تتّهم دائما أطرافا دولية تراهن على الحلول العسكرية فقط. رغم أن ذلك غير صحيح فقد كنت من بين مراقبي الجامعة العربية واضطررت إلى الاستقالة بعدما وجدت أن المهمة لا تفيد شيئا بل مجرد مسرحية هزلية لصالح النظام السوري.
تقدم قوات المعارضة المسلحة ميدانيا واضطرار النظام السوري إلى الاستنجاد بـ “حزب الله” وكتائب من لواء أبي فضل العباس ومقاتلين من الحرس الثوري الإيراني وغيرهم. وهذا ما دفع إلى التفكير الاستراتيجي لفرض أجندة على المجتمع الدولي تنقذ النظام السوري من الانهيار الذي قد يفاجئ الجميع في كل لحظة، ويعطيه الضوء الأخضر لمواصلة حربه الشاملة على المعارضة من دون كيماوي فقط. كما أن تصاعد قوة الكتائب الإسلامية التي تسيطر على مناطق واسعة من سوريا صارت تشكل هاجسا للإدارة الأمريكية أكثر من نظام الأسد، وخصوصا منذ إعلان الجولاني بيعته لأيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة.
وجود مراقبين أو مفتّشين على الأرض يخدم النظام السوري كثيرا جدا، فقد خدمته بعثة مراقبي الجامعة العربية حيث كان النظام في أوج قوته، وكان حينها الجيش الحرّ عبارة عن مجموعات صغيرة تتناثر في بعض الأحياء الثائرة بحمص وغيرها، والحال الآن أخطر بكثير بعد تطوّر لدى المعارضة المسلحة من حيث نوعية السلاح وأيضا قدرات المقاتلين البدنية والعسكرية التي تطورت بدورها بعد أكثر من عامين من العمل في جبهات القتال.
لقد كانت المعارضة السورية تتحدث عن طمس معالم جريمة استعمال الكيماوي في خان العسل بعد خمسة أشهر من حدوثها. وشككت في قدرة المفتشين على التحقق من استعماله بعد طمس آثار الجريمة على حدّ تعبير “الائتلاف” وبعض الشخصيات السياسية وحتى العسكرية من المعارضة. ولجوء النظام السوري لاستعمال الكيماوي بعد وصول المراقبين إلى دمشق بساعات جاء بلا شكّ في إطار متفق عليه بين موسكو وطهران ونظام بشار الأسد في دمشق من أجل استعمال ورقة الترسانة الكيماوية في هذا الظرف الحرج من عمر نظام بشار الأسد.
الأسد اعترف مؤخرا (23/09/2013) في حديث لقناة فضائية صينية بأن السلاح الكيماوي في مناطق آمنة وهي تحت سيطرة كاملة للجيش السوري. كما أن تقارير استخباراتية تحدّثت بأن النظام هو من استعمل الكيماوي من بينها ما نشرته صحيفة “الغارديان” في 03 سبتمبر من خلال تقرير استخباراتي فرنسي استشهد بصور ساتلية تظهر انطلاق صواريخ من مواقع قوات النظام. في المقابل قدمت الاستخبارات الألمانية تقريرا جاء فيه أن اتصالاً جرى بين مسؤول كبير من “حزب الله” والسفارة الإيرانية في بيروت أشار خلاله مسؤول الحزب إلى مسؤولية بشار الأسد عن الهجوم وإلى أنه بدأ يفقد أعصابه.
الأهم من كل ذلك أن المستفيد الأول والأخير من مجزرة الغوطة هو النظام السوري إلى حدّ الآن، فعلى المستوى الميداني فقد كبّد قوات المعارضة خسائر بشرية كبيرة في العملية، وزرع الرعب في المناطق التي يسيطرون عليها أكثر مما حدث من قبل. أما الهدف الاستراتيجي والأساسي فهو الخروج من دائرة الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية وجرّ المجتمع الدولي إلى مهمة نزع السلاح الكيماوي التي ستكون طويلة المدى وفيها من المراوغات والسيناريوهات ما لا يمكن حصره ويخدم النظام السوري.
طبعا باستعماله الكيماوي ضَمن نظام بشار الأسد عدم التدخل العسكري الخارجي الذي لا يمكن أن يحدث مع جهة لديها ترسانة من أسلحة دمار شامل، ووصل به الحال إلى تهديد بعمي إسرائيل عبر حواره بتاريخ 26 سبتمبر مع جريدة الأخبار اللبنانية المقربة من “حزب الله”. كما أنه أخرج ورقة استراتيجية مهمة ظل يراوغ بها، حيث إن بداية الاعتراف جاءت على لسان الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية السورية، جهاد مقدسي، الذي صرّح في جويلية 2012 بأن “أي سلاح كيماوي أو جرثومي لن يتم استخدامه أبدا خلال الأزمة السورية”. وأضاف أن “هذه الأسلحة مخزّنة ومؤمّنة من قبل القوات العربية السورية، ولن تستخدم إلا في حال تعرّض سوريا لعدوان خارجي”. وقد كانت هذه التصريحات هي أول اعتراف ضمني بوجود السلاح الكيماوي والجرثومي. وتشير بعض المصادر الإعلامية أن تصريحات المقدسي أغضبت نظام بشار الأسد وهي من بين أسباب هروبه إلى الخارج.
.
مهمة دولية والطريق الشاق
لقد نجحت روسيا وإيران وبشار الأسد في استغلال ورقة الكيماوي السوري التي كانت بعيدة عن أي ضغوطات دولية، وبذلك أبعدوا أي احتمال للتدخل العسكري الخارجي، وجرّوا المجتمع الدولي إلى الرضوخ لمرحلة نزع أسلحة الدمار الشامل التي بدأت بالكيماوي وقد تتطور أيضا إلى الجرثومي وأنواع أخرى. ومع مرحلة نزع السلاح الكيماوي ستبدأ تحديات كبيرة ومتعاقبة من حيث أساليب وطرق نزعه وأشياء أخرى متعددة. وقد بدأها الرئيس السوري لما صرّح بأن تدمير ترسانته الكيماوية يقتضي مدة تتجاوز العامين ومليار دولار. كما بدأت الاتهامات متبادلة بين المعارضة والنظام، حيث إن هذا الأخير مع روسيا وإيران يتهمون قوات المعارضة المسلحة باستعمال الكيماوي. بل ذهب بشار الأسد في حواره مع التلفزيون الصيني إلى الشروع في اتهام المعارضة بعرقلة عمل المفتشين الدوليين وقبل حتى ممارسة مهامهم. كما أن المعارضة بدورها تتّهم النظام بتهريب الكيماوي إلى “حزب الله” في جنوب لبنان والعراق. كما ستبدأ لاحقا موجة اتهامات النظام وحلفائه للمفتشين بعدم احترام السيادة والتجسس والتلفيق والمؤامرة والتواطؤ، والمفتشون أيضا سيتهمون النظام بالمراوغة والتضليل والكذب والتماطل والتلاعب… الخ.
مع الاتهامات المتبادلة وأخرى لم تأت بعد قد تصل الأمور إلى اقتراف مجزرة كيماوية وبغازات أخرى لخلط الأوراق والزجّ بالمعارضة أيضا في قرارات التفتيش. وهذا حتما سيضع عملية نزع السلاح الكيماوي في مواجهة أعقد التحديات. فقد كان العراق آمنا ومستقرّا وتحت سيطرة كاملة لنظام صدام حسين، رغم ذلك تجاوز التفتيش عن الأسلحة الكيماوية المفترضة مدّة عشر سنوات. فكيف سيكون الحال مع سوريا التي تعيش حربا أهلية مدمّرة؟
جرّ المجتمع الدولي إلى دائرة نزع السلاح الكيماوي وتجاهل حرب الإبادة التي شنّت ولا تزال على الشعب السوري، وصار المهم هو الترسانة التي استعملت في الجريمة وليس الضحايا الذين سقطوا وبينهم أكثر من 400 طفل. هو انهيار أخلاقي دولي خطّطت له روسيا بالتعاون مع نظام بشار الأسد وإيران.
القوى الغربية التي تضع أمن إسرائيل فوق كل الاعتبارات، مصلحتها ليست دماء المدنيين التي سفكت بل هو تدمير السلاح الكيماوي الذي إلى حدّ الآن لم يتم الاتفاق على طريقة تدميره ومن يتحمّل أعباء ذلك وعلى أي تراب سيتمّ وما هي الجهات التي ستسهر على متابعته والسيناريوهات كثيرة ومتعدّدة وكلها تؤكد أن العملية لن تنتهي في أشهر معدودة بل سنوات من التخبط في متاهات لا حدود لها.