-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

متاهات العِلم في زمن الحرب

متاهات العِلم في زمن الحرب

أدت الحرب الروسية الأوكرانية منذ الأسابيع الأولى إلى اتخاذ عقوبات واسعة لعزل المؤسسة العلمية الروسية. والآن بدأ العلماء يراجعون مواقفهم وصاروا ينادون بوجوب السعي إلى اتفاق عالمي حول كيفية استمرار الباحثين في العمل دون مساعدة المعتدي ودون إعاقة التقدم العلمي، وهي معادلة عويصة الحل.

سلوك العلم في زمن الحرب

فقد سارعت الحكومات الغربية المتحالفة إلى إصدار سلسلة من “العقوبات العلمية”، وقيّدت التعاون العلمي مع روسيا كجزء من العقوبات الاقتصادية والتجارية ضد هذا البلد. والسؤال المطروح بإلحاح اليوم هو: هل يحتاج العالم الآن إلى معايير ومبادئ توجيهية لسلوك العلم في النزاعات المستقبلية؟

وفي هذا السياق، ظهرت انقسامات واضحة في الرأي داخل مجتمع البحث الغربي حول الموضوع. وفي النهاية، ظهر بصفة تدريجية نوع من الإجماع بين حكومات العالم المتقدم بوجوب تركيز العقوبات على المؤسسات العلمية الروسية، بدلاً من الباحثين كالأفراد. لكن هذا المواقف لا تتقاسمه كثير مؤسسات العالم النامي إذ لا مصلحة واضحة تجنيها دولة فقيرة مما يسميه الغرب “الستار الحديدي” العلمي ضد روسيا.

أضف إلى ذلك أن نفس الوضع يمكن أن يحدث في حال نشوب صراع في مكان آخر، مثلا بين الصين والولايات المتحدة أو إيران وإسرائيل. لذلك يرى العلماء اليوم أنه يجب التفكير في هذه القضايا بعناية ومنهجية من أجل الوصول إلى وضع بروتوكول عالمي تحت مسمى “سلوك العلم في زمن الحرب”. ويضرب الخبراء مثالا بجائحة كورونا التي احتاجت إلى إسهام الجميع بدون استثناء. كما أن قضية تغيّر المناخ والتنوع البيولوجي، وانتشار السياسات البيئية والاجتماعية يدعو إلى تعاون كل البلدان.

وبهذا الصدد عُقدت في سبتمبر الجاري ندوة دعا فيها العلماء إلى إعادة النظر وتقييم جدوى العقوبات العلمية ضد روسيا، شارك فيها نحو 700 خبير. ومن بين المشاركين في هذا الاجتماع الذي ناقش بصفة خاصة مستقبل التعاون العلمي في أوقات الصراعات، السيدة أولجا بولوتسكا، المديرة التنفيذية للمؤسسة الوطنية للبحوث في أوكرانيا. وقد اندهشت بولوتسكا، وخاب أملها عندما سُئلت عما إذا كانت تعرف تأثير الحرب الدائرة رحاها على العلم في روسيا. وأجابت أنه لسوء الحظ لا يفهم المجتمع الدولي “أن الصراع لم يبدأ في الواقع في فبراير 2022 بل احتدّ بدءًا من عام 2014. فمنذ ذلك الوقت، تم “تعليق أو قطع التعاون الوثيق والعلاقات التعاونية مع الباحثين الروس”. وقالت: “حان الوقت الآن لقطع جميع الروابط والصلات مع الأبحاث التي تجرى في الاتحاد الروسي”. لكن هذا الرأي لم يشاركه فيه المجتمعون.

وخلال النقاش، تساءلت بولوتسكا عما إذا كان هناك عدد كبير من العلماء الروس يقفون ضد الحرب الروسية الأوكرانية؟ وبهذا الخصوص، ذكرت أنه في الأسبوع الثاني من الحرب، أرسلت مؤسسة الأبحاث الوطنية في أوكرانيا أكثر من 40 ألف رسالة إلكترونية إلى الباحثين الروس باستخدام قاعدة بيانات للحصول على عناوينهم، وناشدتهم المؤسسة إدانة العدوان الروسي على أوكرانيا. لكن معظم هؤلاء الباحثين تجاهلوا المراسلة، ومن بين الردود التي وصلت المؤسسة لم يكن هناك سوى 12%   من المحايدين أو المستنكرين، بينما أيّد الآخرون (88%) الحرب.

اختلاف في الرؤى

أما ماثيو دينيس، المدير العلمي لمركز العلوم الدول (ISC) ، فعبر عن رأي لم يوافق فيه الممثلة الأوكرانية مشيرا إلى أن مركزه “ليس منظمة غربية أو أوروبية ” بل هو اتحاد علمي غير حكومي رائد في العالم يمثل أكثر من 140 دولة، وهو “يتحدث باسم المجتمع العلمي العالمي”. وأضاف ماثيو دينيس: “لدينا مسؤوليات مشتركة ومحددة، إحداها هي الحفاظ على القدرة على إنتاج المعرفة التي تساعد المجتمع على مواجهة التحديات العالمية”. ثم تساءل عما إذا كان هناك “أي دليل على أن العقوبات [في المجال العلمي] تعرقل أو تقلّل أو تضعف قدرة روسيا على قيادة حربها العدوانية ضد أوكرانيا”؟ وختم كلامه بملاحظة أن العكس يبدو هو الصحيح إذ أن هناك أدلة على أن تلك العقوبات تضعف القدرة العالمية على مواجهة التحدّيات القائمة على مستوى المعمورة، مثل تغير المناخ حيث نحتاج إلى بيانات من جميع أنحاء العالم لتكون أكثر فعالية.

أما الرئيس السابق لجامعة ماستريخت الهولندية، الأستاذ لوك سويت، فأقرّ بأن الصراع بدأ في 2014 وليس في فبراير من العام الجاري، ونبّه إلى أنه كان ينبغي استخدام “الدبلوماسية العلمية” في ذلك الوقت، مشيرا إلى أن “رجال العلم يختلفون عن رجال الرياضة البدنية وعن رجال التجارة”، وأن معاقبة المؤسسات البحثية التي تدعم الحرب أمر لا مفرّ منه، في حين “يجب أن نفعل العكس تمامًا مع العلماء كأفراد”. ثم يطرح هذا التساؤل الغريب: “لماذا لا توجد لدينا سياسة حقيقية لجذب العقول الروسية وتوليد هجرة الأدمغة من روسيا لتقوية أساسنا العلمي ومعاقبة النظام العلمي الروسي من خلال محاولة سرقة أفضل أدمغتهم العلمية”؟ !

واستمعت الندوة أيضًا إلى خبراء من جنوب إفريقيا واليابان، فكان لهؤلاء رأي يخالف الرأي الغربي بخصوص التعامل مع روسيا في المجال العلمي. فقد تبنّت الأستاذة يوكو هاراياما، المسؤولة في مجلس إدارة الجمعية اليابانية لتقدم العلوم، موقفا مخالفا عندما قالت إنهم في اليابان يفضلون التصريحات التي تدين العدوان بدلاً من دعم “العقوبات العلمية” ضد روسيا. وأضافت أن الصراع في أوكرانيا يبدو بعيدًا في أوروبا بالنسبة لكثير من اليابانيين، ومع ذلك منبهة إلى أن بعض الوافدين الروس إلى اليابان الذين يعملون ويدرسون في اليابان يعارضون اجتياح روسيا لأوكرانيا. وفي هذا السياق تساءل أحد المشاركين عما إذا كانت المؤسسات العلمية اليابانية سترى الأمور بشكل مختلف لو غزت الصين تايوان !

وهكذا نرى أن التخوف لدى العلماء على أشده في موضوع “العقوبات العلمية” على روسيا، وذلك بعد تقييم تداعياتها على المستوى العالمي واحتمال ظهور نزاعات أخرى قد تؤدي مجددا إلى عقوبات مماثلة تلحق أضرارا مضاعفة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!