مجانا…
ارتبطت المجانية باستمرار بالرداءة.. قليلة هي الأشياء المجانية الجيّدة أو الممتازة، إلا ما كان لوجه الله تعالى أو ما أعطاه لنا سبحانه رحمة ًبِنا، من ماء وهواء وشمس وطبيعة… أما بقية ما صَنَعه الإنسان خاصة في عصرنا الحالي، فإنه كلما كان مجانا، كانت فيه خدعة ما، أو مشكلة ما أو نقص ما.. لذا فإن الشعوب المعاصرة اليوم لم تَعُد تتحدث عن المجانية بقدر ما أصبحت تتحدث عن الفعالية والكفاءة والسرعة، كقيم للمنتج بما في ذلك المنتج الصحي! وبعدها تأتي مسألة كيف تتم مساعدة غير القادرين على الدفع أو القادرين على الدفع الجزئي أو غيرهم من الفئات الهشة…
الباحث الأمريكي “ألفين توفلر” قال منذ سنوات مُعلِّقًا على مدى وجود اقتصاد رأسمالي أو اشتراكي في عالم اليوم، إنه بعد الثورة التكنولوجية المعاصرة، والترابطات العالمية الكثيفة، لم يعد بإمكاننا الحديث عن نَمط ٍمن الاقتصاد بإحدى الصيغتين، بل لم يعد أمامنا سوى الحديث عن معيار موحَّد للتمييز يتعلق بالبطء أو السرعة. هناك الاقتصاد السريع جدا والاقتصاد البطيء جدا، وبينهما أنماط من النماذج الاقتصادية كل حسب سرعته.
الأمر ذاته بالنسبة إلينا اليوم. السؤال الذي ينبغي أن نطرحه ليس أي نوع من الاقتصاد نملك، أو أي نوع من السياسة الصحية نَتَّبع، بل مدى سرعة وكفاءة اقتصادنا أو نظامنا الصحي مقارنة ببقية الأمم.
ولعل الكل يعرف أن اقتصادنا بطيء النمو إلى درجة الركود، وصحتنا قليلة الفعالية إلى درجة أنه لا أحد من المسؤولين يثق فيها، فكيف بنا نتحدث مرة أخرى عن مهلة سنتين أو أكثر لنلمس الجديد وبالمجان؟!…
ينبغي أن نتوقف عن سياسة الهروب إلى الإمام، والاختفاء خلف الشعارات. المواطنون قبل أن تهمهم مجانية العلاج يَهُمهم وجود العلاج وفعاليته وسرعته، لأن المَرض لا يرحم، وبعدها لكل حَدثٍ حديث.
في الأنظمة الليبرالية حيث لا علاج مجانا، يستحيل عدم التكفل بالمريض حتى ولو كان حرّاقا من جنسية أخرى، أومسؤولا مختفيا في صفة “حرَّاق” من بلد أجنبي، وبعدها تأتي التكاليف ويأتي الضمان الاجتماعي، وتأتي أساليب تسوية فاتورة العلاج التي تبدأ من الدفع الكلي إلى الإعفاء الكلي حسب كل حالة وحسب دخل كل فرد، ولكن دوما بعد الفعالية وسرعة العلاج لا قبل ذلك.
لذا فإنه إذا كان من حل لواقع منظومتنا الصحية، فإنه ليس بالضرورة مرتبط بمجانية العلاج بقدر ما هو مرتبط بجودته أولا ثم بفعاليته وسرعته، وبعدها من السهل صوغ القوانين التي تضبط مَن يستفيد بالعلاج المجاني كلية ومن يستفيد منه جزئيا ومن لا يستفيد.
فليس من المعقول أن نُبقي قطاعا حيويا مثل هذا محكوما بالشعارات، وليس هذا أبدا هو مفهوم اجتماعية الدولة، إلا إذا كنا نريد أن نُسوقِّ لسلعة رديئة تماما، أو غير موجودة تماما… رافعين يافطة كُتب عليها “مجانا”… لا ندري هل عن الموت يتحدثون أم عن الصحة والأمل، والحياة…