الرأي

محمد الصالح يحياوي .. الأخطاء والخطيئة

محي الدين عميمور
  • 11209
  • 30

تستحق “الشروق” تحية خاصة على الحديث الذي قدمته للمجاهد محمد الصالح يحياوي الأسبوع الماضي، الذي أعاد إلى الأذهان جانبا من نضال مجاهد عريق، ظُلِم كثيرا خصوصا من عقوق بعض من له فضل كبير في بروزهم على الساحة الحزبية.

اختفى يحياوي من الساحة السياسية منذ بداية الثمانينيات، إلى درجة أن هناك من كان يتصور أنه انتقل إلى رحمة الله، وهنا تأتي أهمية ما نشر في “الشروق”، برغم أنه كان مقتضبا ولم يتناول الكثير من معالم التجربة الحزبية التي خاضها مدير الأكاديمية العسكرية بشجاعة وحنكة وإصرار، وقبل ذلك لم يتناول، وهي مسؤولية الصحفي أساسا، دوره في الأكاديمية التي تخرج منها أكثر من جيل من قادة القوات المسلحة، وخصوصا دوره في ميدان التعريب، وقبل ذلك خلال الثورة المباركة، التي خرج منها بأعظم الأوسمة، وهي الجروح التي ما زال يعاني منها حتى اليوم.

ولقد انتظرت، وما زلت أنتظر، أن أقرأ شهادات لبعض من عرفوا يحياوي أو عملوا إلى جانبه، تبرز أفضال الرجل، وهي كثيرة، ولعلي أحاول هنا أن أشير إلى بعضها، وفاء لمناضل وصديق، بل وفاء لتاريخنا الثري بأمجاد الرجال.

تولى يحياوي قبل التصحيح الثوري في جوان 1965 مسؤولية المنظمات الجماهيرية في حزب جبهة التحرير الوطني، وكان مكتبه في مبنى الحزب بساحة الأمير عبد القادر، وأذكر له شخصيا آنذاك وقفته معي عندما رفضت وزارة الصحة الاعتراف بشهادتي الطبية التي حصلت عليها من القاهرة في 1963، وقال لي المسؤول الطبي في العاصمة يومها إنه لا يمكن تعيين طبيب لم يحصل إلا على “البكالوريا”، وحاولت عبثا إفهامه بأن كل الشهادات العلمية الجامعية في المشرق تحمل اسم “بكالوريوس”، وهي شيء غير البكالوريا، ولم ينقذني آنذاك إلا اتجاهي إلى القوات المسلحة حيث التحقت بالبحرية، وعرفت في ما بعد أنه كان لوزير الدفاع آنذاك دور في ذلك.

ووضع يحياوي في ما بعد كل ثقله معي لانتزاع حقي في فتح عيادة خاصة بعد خروجي من البحرية، وانتقم مني المسؤول الطبي في الجزائر آنذاك بأن حرمني من الحصول على عيادة من العيادات الشاغرة، التي وزعت على “جماعته”، وكان ليحياوى الفضل الكبير في تمكيني من إثبات وجودي الطبي في العاصمة الجزائرية.

وعندما اتجه الرئيس الراحل هواري بومدين لاستدعائي للعمل إلى جانبه في رئاسة الجمهورية، راح، كعادته في كل القضايا، يستشير بعض من يثق في آرائهم، وكانت شهادة مدير الأكاديمية العسكرية آنذاك شهادة أعتز بها، وسبقتها شهادة مكتوبة قدم فيها العقيد كتابي “انطباعات”، الذي صدر في 1971.

وقد أشار يحياوي في حديثه الأسبوع الماضي إلى تكليفه بالعمل كمسؤول تنفيذي للمؤسسة الحزبية لأوضح ما كنت فهمته آنذاك من اختيار الرئيس بومدين له، الذي حاول البعض تقديمه كتخلص من العقيد، برغم أن الاختيار تم بعد نحو سنتين من تفكير الرئيس فيه، كما جاء في الأحاديث.

وأذكر هنا بما كنت كتبته منذ سنوات، ومضمونه أن الرئيس بومدين كان يرى أهمية التكامل السياسي والنضالي بين القوات المسلحة والمؤسسة الحزبية، ومن هنا كان اختيار القائد العسكري الذي تخرجت على يديه دفعات ودفعات من ضباط الجيش ليكون مسؤول الحزب الذي يُعدّ المؤتمر السياسي الحاسم في تاريخ البلاد، وهو ما اقترن بتعيين عدد من الضباط المجاهدين على رأس عدد من أهم المحافظات الحزبية.

ويجب أن ألاحظ هنا أيضا أن الحزب كان يضم عددا مهمّا من المجاهدين، وبوجه خاص المعربين منهم، وكان المفروض أن يكون لهذا دور مهمّ في خلق التوازن مع الإدارة، التي لم تكن عُرّبت آنذاك، وكذلك أمام المؤسسات الاقتصادية التي لم يكن عدد المجاهدين على رأسها كبيرا، فضلا عن كون الأغلبية الساحقة كانت من أبناء التكوين الفرنسي.

وكان هذا من أهم وسائل الرقابة السياسية على الأداء التنفيذي والممارسات الاقتصادية.

وأصبح يحياوي الرجل الثاني في الجزائر بعد انتقال الرئيس بومدين إلى رحاب الله، وكان هو من دعانا إلى الاصطفاف وراء الشاذلي بن جديد، في الظروف التي تناولها في حديثه، لكن ذلك لم يستمر طويلا إذ تم التخلص منه في بداية الثمانينيات، إثر الدورة الثالثة للجنة المركزية، وأنا ممن يرون أن ذلك كان بداية انزلاق النظام وانهيار حزب جبهة التحرير الوطني، الذي فقد مضمونه الديموقراطي الذي عُرِف به وهو وجود الرأي والرأي الآخر، وذلك في التصفيات التي عرفها في المؤتمر الخامس في ديسمبر 1983، وتم فيها التخلص نهائيا من يحياوي وعبد العزيز بوتفليقة وعبد السلام بلعيد وآخرين في مستويات أقل أهمية، من بينهم العبد الضعيف.

وكانت تصفية يحياوي على وجه الخصوص خطيئة سيدفع النظام ثمنها غاليا في ما بعد، لأن يحياوي كان بالنسبة إلى رئيس الجمهورية، والرئيس الشاذلي على وجه التحديد، مرآة صافية يرى فيها الحاكم حقائق الأوضاع.

ولا جدال في أنه كان ليحياوي أخطاؤه، فهو كبشر اجتهد وأصاب واجتهد وأخطأ، لكن بعض الأخطاء التي نسبت إليه كانت مفبركة أحيانا، وكانت أحيانا ناتجة عن تصرفات بعض المحيطين به، وقد تناولت بعض ذلك في كتابي “أنا وهو وهم” الذي صدر في حياة الرئيس الشاذلي، وأرسلت به إليه حال صدوره.

غير أن من واجبي أن أصحح ما ورد في عنوان الاثنين الماضي على لسان يحياوي، من أن “بومدين جمّد “الحزب الحاكم” وجعله جثة من دون روح).. وهذا لم يكن رأي يحياوي، الذي قال بوضوح إن رأي بومدين في الحزب لم يكن بأحسن من رأيه هو، أي رأي يحياوي.

ويبقى أن على الشرفاء ألا ينتظروا وفاة الشرفاء ليكتبوا عنهم شهادات هي من حق الأمة أولا وقبل كل شيء، لأن التأبين بعد الوفاة لا مصداقية له، وعباراته مهما كان جمالها وبلاغتها هشيم تذروه الرياح، وقلّ من يوليها الاهتمام.

أطال الله عمر سي محمد الصالح، ولا قرّت أعين الجبناء.

مقالات ذات صلة