الرأي

مدارس لولاها ما كنت

ح.م

تشرفت في يوم الأحد الماضي – رفقة ثلّة من الشبان- بزيارة الأستاذ محمّد الصالح الصديق..

وأنا لست غريبا عن هذا الأستاذ، فأنا أعرفه منذ أكثر من نصف قرن، لم تنقطع صلتي به إلا لتجدّد كأمين ما تكون العلائق..

إن زيارة الأستاذ محمد الصالح فرصة لإغناء العقل، وإنعاش النفس، وإرواء الروح.. فالجلوس إلى هذا الأستاذ أشبه ما يكون بجلوس جائع إلى مائدة ملئت بما تشتهيه الأنفس، وتلذّ الأعين.. أو هو أشبه بالدخول إلى عوالم شتى: عالم الدين الصحيح الخالي من التخريف والتقعر أو التّفيقع، فالأستاذ خريج الجامعة الزيتونية المباركة، التي أضاءت تونس، وأنارت ما حولها منذ أسّست على التقوى إلى الآن، ماعدا سنوات الضلال البورقيبي وخليفته، حيث حاولا إطفاء نور “الزيتونة”، فأطفأهما الله العزيز المنتقم. وها هي “الزيتونة” المباركة تعود سيرتها الأولى مصدر نور، ومنارة هداية يهتدي بها من علم الله في قلبه خيرا..

والجلوس إلى الأستاذ محمد الصالح هو رحلة ممتعة في عالم الأدب شعرا ونثرا، وقد تجولنا بين أفنان وأزهار حدائق هذا الأدب من كثيّر عزة إلى رهين المحبسين، إلى من الخيل والليل والبيداء تعرفه، والسيف والرمح والقرطاس والقلم، الذي يكرهه أصحاب “الأدب المخنّث، إلى ابن زيدون وولاّدته، إلى من أحيا دولة الشعر العربي “الشركسي” أحمد شوقي، إلى من كلامه “عسل مصفّى”، أو هو ألذ وأشهى، – كما قالي لي أستاذي أحمد حماني، أعني الإمام محمد البشير الإبراهيمي..

كما أن الجلوس إلى الأستاذ الفاضل لا يخلو من الحديث عمّن صارت مضرب الأمثال في السّفل، أقصد فرنسا “العارية من الفضال الإنسانية” لدرجة تأسيس “مدرسة جان دارك” في سكيكدة لتعليم أبنائها “فنون” هدر الكرامة الإنسانية..

وقد منّ الله على هذا الأستاذ فوفقه إلى تلبية نداء الجهاد ثأرا للعرض، واسترجاعا للأرض..

ولم تخل جلسة من جلساتي – على كثرتها- مع هذا الأستاذ الذي جاوز التسعين، لم تخل من الحث على الأخلاق الفاضلة، خاصة أن الإنسانية اليوم – ونحن المسلمين جزء منها – لا تعاني نقصا في العلم، ولكنها تفتقر إلى الأخلاق.. وما يجري في وطننا أكبر دليل على هذا “الفقر” المدقع في الأخلاق، المنذر بأننا – إن لم نتدارك الأمر- سنصبح أحاديث.. وقديما قال شاعرنا:

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم

فأقم عليهم مأتما وعويلا

ومن قرأ القرآن بتدبر عرف أن انهيار الأمم واندثار الحضارات كان سببه انهيار القيم والأخلاق.. ولكن أكثر الناس “صمّ عمي”، لا يعقلون..

وعندما هممنا بتوديع الأستاذ بعدما أتعبناه ما يزيد عن ساعتين أبى إلا أن يتحفني – كدأبه- بأحد كتبه التي تزيّنت مكتبي بكثير منها..

هذا الكتاب الذي أهداه إليّ الأستاذ يحمل عنوانا غير مألوف في عالم المؤلّفات، وهو “مدارس لولاها لما كنت”.

إن هذه المدارس التي لولاها لما كان الأستاذ محمد الصالح الذي كان هي:

1) الأسرة من والدين، وأجداد، وأخوال، وأصهار، وهي أسرة طيبة آتت أكلها بإذن ربها، مصداقا لقوله تعالى: “والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا”. ومصداقا لقول الشاعر الحكيم:

        إذا طاب أصل المرء طابت فروعه         ومن خطإ جاد الشوك بالورد

        وقد يخبث الفرع الذي طاب أصله           ليظهر صنع الله في العكس والطرد

2) القرآن الكريم، الذي كوّن “أمة” ليست كأحد من الأمم، بل كانت “خير أمة”، لا خيرية عنصر أو جنس، بل خيرية وظيفة، هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله عز وجل، وهذا القرآن قادر على أن يعيد الأمة سيرتها الأولى ما إن تمسكت به، وأقامته في حياة الأفراد والأمة.. وإن شياطين الإنس والجن ليجهدون أنفسهم، وينفقون أموالهم لإبعاد هذه الأمة عن قرآنها، لأن في عودتها إليه نهاية المتألهين عليها، الممتصّين لدمها، المستغلين لخيراتها.. وما أجمل قول الإمام الإبراهيمي في هذا الشأن: “يا أهل القرآن لستم على شيء حتى تقيموا القرآن”..

3) المدرسة اليلّولية، وهي زاوية قائمة بالحق، غير منحرفة عن الحق، وقد خرجت آلافا من الطلبة منهم أستاذنا الفاضل، الذي وفّى لها حقها، حيث عاد إليها مدرّسا بعدما مكث فيها بضع سنين دارسا على أشياخ نجب، وهي زاوية متفردة في نظامها.. وهي تعلم أسوار غير العلوم، تعلم الانضباط، وتحمل المسئولية، إذ الطلبة القائمون عليها، وتعلم المساواة.. وتغرس في نفوس الطلبة ذلك الشموخ المعنوي المستمد من عزة الإسلام وأنفته، والشموخ المادي المستمد من ذلك الموقع المهيب الذي تحتله.. فهي كما قال الشاعر: “تناطح السماء” وتمزق السحب، وتستعلي على كل مستعل بالباطل..

4) جامع الزيتونة، الذي أشرت إلى فضله في صدر هذه الكلمة، وقد أعطى للأمة الإسلامية أعلاما تفاخر بهم.. وقد كانت هذه “المدرسة” مباركة على أستاذنا، إذ في رحابها أحرج أولى ثمراته، وهو “أدباء التحصيل”. ومن أراد التوسع في فضل هذه “المدرسة الزيتونة” على الجزائر فليراجع كتاب “الطلبة الجزائريون بجامع الزيتونة” ذا الأجزاء الثلاثة للدكتور خير الدين شترة..

5) أما المدرسة الخامسة التي تعلم فيها الأستاذ دروس السيف، لا دروس الكتب، فهي ثورتها المباركة التي أكرم الله – عز وجل- أستاذنا بأن قدر له شرف المساهمة فيها.. وقدر له أن يلتقي مجاهدين، وأن يرى فيهم ومنهم عجائب، رغم بساطة تعليمهم، وانعدام خبرتهم، ولكنهم اتقوا الله، فعلّمهم ما لم يكونوا يعلمون، واشترى منهم أعز ما عندهم، وهو أنفسهم، ثم أكرمهم بما يحبون “نصر من الله وفتح قريب”، وتمريغ أنف عدوهم رغم ما يتمتع به من عدد وعدد..

وأنهى الأستاذ الفاضل كتابه بالحديث عن المدرسة السادسة، وهي عبارة عن مجموعة من العلماء، والأدباء لكل واحد منهم أثر في الأستاذ – وإن إشادة الأستاذ بهم لدليل على نبل معدن، وكريم أصل، وجميل اعتراف.

شكرا لأستاذي على هديته القيمة، ونطمع أن يزيد، ونسأل الله له العمر المديد، والعيش السعيد.. وأن يجعله من الخيرة الذين طالت أعمارهم وحسنت أعمالهم.

مقالات ذات صلة