-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

“مدرسة عليا لأساتذة الصم والبكم”: أيُّ جَدْوَى؟ !

“مدرسة عليا لأساتذة الصم والبكم”: أيُّ جَدْوَى؟ !

حسب ما نذكر، ففي الخريف الماضي، وخلال لقاء من لقاءات رئيس الجمهورية الدورية مع الصحافة الوطنية، عبّر الرئيس عن أسفه لكونه طلب قبل شهور بأن تعمل الحكومة على إنشاء مؤسسة تعليمية تتكفّل بالصمّ والبكم غير أن هذا الطلب لم يحظ بالأهمية المنتظرة من المسؤولين. وعقب ذلك شمّرت ثلاث وزارات (التربية الوطنية، والتضامن، والتعليم العالي) على السواعد وراحت تعمل لتحقيق هذا الهدف. لكن ما جدوى التحضيرات الحالية التي تقوم به هذه الوزارات؟

تسلسل الأحداث

والواقع أن في أبريل 2021، وخلال اجتماع مجلس الوزراء شدّد الرئيس على “ضرورة إنشاء مدرسة وطنية عليا لتكوين الأساتذة المختصين في تعليم الصم والبكم، ووضعها حيّز الخدمة مع الدخول المقبل، مع العمل على تطويرها لتصبح لاحقا مؤسسة ذات بعد إفريقي وعربي”. وجاء ذلك بعد أن قدم وزير التربية عرضا حول “إنشاء مدرسة وطنية لتكوين الأساتذة المختصين في تعليم الصم والبكم”.

وفي نفس الاجتماع ألحّ الرئيس على “ضرورة التكفل بكافة المواطنين من كل الفئات بما فيهم ذوي الاحتياجات الخاصة، لضمان التربية والتعليم المُكيف عبر كافة ولايات الوطن”. وقد كُلفت وزارة الصحة والسكان وإصلاح المستشفيات بـ”إنشاء مؤسسة استشفائية وطنية للتكفل بضعيفي وفاقدي السمع، مع التركيز على تطوير عمليات زراعة القوقعة “. ولم يهمل بيان مجلس الوزراء ضرورة التكفل بالأطفال المصابين بالتوحد.

ثم طالعتنا وسائل الإعلام في بداية ديسمبر 2021 بخبر مفاده أنه عُقد اجتماع تنسيقي بين وزيري التعليم العالي والتربية الوطنية، و”ينتظر أن يتم إنشاء المدرسة الوطنية العليا للصم البكم مع نهاية السنة الجامعية الجارية، استجابة لتعليمات رئيس الجمهورية بضرورة التكفّل بفئة ذوي الاحتياجات الخاصة”. وأكد وزير التعليم العالي آنذاك أن الاجتماع “خُصص لاستكمال كل الملفات المشتركة التي هي في طور الإنجاز، والانطلاق في تجسيد الملفات الجديدة، وفي مقدمتها السعي لإنشاء المدرسة الوطنية العليا للصم البكم مع نهاية السنة الجامعية الحالية”.

أما وزير التربية فصرح بأن هذا الاجتماع كان “يسعى إلى تدارس الآليات الكفيلة بتجسيد مشروع رئيس الجمهورية المتمثل في إنشاء هذه المدرسة المتخصصة من خلال تكييف برامج التكوين وتحديد حاجيات القطاع من الأساتذة المتخصصين بما يسمح بالتكفل الأمثل بفئة الصم البكم بيداغوجيا وتربويا”. ثمّ أشار إلى “توفّر قطاع التربية على أساتذة متخصصين في تأطير هذه الفئة ضمن أقسام خاصة في طوري التعليم الابتدائي والمتوسط فقط، تمّ تكوينهم على مستوى المعاهد التابعة لقطاع التضامن”. ودعا وزيرُ التربية وزارة التعليم العالي إلى “التكفل بهذا المطلب كي نضمن تكوين أساتذة تعليم ثانوي متخصصين، مع إمكانية توسيعه ليشمل الطورين الابتدائي والمتوسط بما يستجيب لحاجيات قطاع التربية”.

ونتيجة لذلك، جاء في مرسوم وقعه الوزير الأول صادر في الجريدة الرسمية يوم 26 ديسمبر 2021 خبر إنشاء مدرسة عليا تحمل اسم “المدرســة العلـيا لأساتذة الصــم والبــكم. وتتولى هذه المدرسة “مهمة ضمان تكوين أساتذة التعليم الثانوي للصم والبكم لفائدة قطاع التربية الوطنية والقطاعات الأخرى، حسب الحاجة. كما يمكنها، عند الاقتضاء، ضمان تكوين أساتذة التعليم الابتدائي وأساتذة التعليم المــتوســط للصـم والبكم لفائدة قطاع التربية الوطنية والقطـــاعات الأخـــرى، حــسب الحــاجة”.

هكذا جاء في المرسوم. والآن يعمل فريق على قدم وساق من أجل وضع مناهج دراسية لمن سيلتحقون بهذه المدرسة من حملة الليسانس والذين سيقضون في هذه المدرسة العليا سنتين للحصول على الماستر أو ما يعادله ليصبحوا بعد ذلك أساتذة للصم والبكم في مرحلة التعليم الثانوي.

ما حاجة ضعاف السمع؟

من المعلوم أن ضعاف السمع وفاقديه ينقسمون إلى عدة فئات. وبالتالي فحاجياتهم تختلف من فئة إلى أخرى. والتكفل بهم في البلاد يعرف ثغرات ونقائص كثيرة يبدأ من تاريخ الولادة إلى مرحلة ما قبل التمدرس، ومن المرحلة الابتدائية والمتوسطة إلى المرحلة الثانوية.

وعلى سبيل المثال، فمن يحتاج إلى قوقعة فإن زرعها مكلف جدا (مئات ملايين السنتيمات)، كما أن بطارياتها بنحو 3 ملايين سنتيم. وينبغي أن يتم زرع القوقعة قبل بلوغ 3 سنوات كي تكون ذات فائدة لحاملها. ثم إن متابعة هؤلاء المصابين وتدريبهم يكاد يكون معدوما في القطر، بينما يتطلب تدريب المصاب حصصا شبه يومية في مجال الصوتيات قبل الدخول إلى المدرسة. وهذا التدريب غير متاح إلا للقليل، وإن توفر في المستشفى والمراكز الخاصة فهو ليس بالوتيرة المطلوبة. هذا مشكل كان من المفروض أن يلقى اهتمام السلطات ربما قبل تفاصيل مستلزمات التعليم.

توجد الآن أقسام خاصة في الابتدائيات لضعاف السمع، وفي بعض الأحيان يدمج معهم أطفال بإعاقات أخرى مثل التوحد والتخلف الذهني. وما يذكره بعض الأولياء أن معلمي هؤلاء الأطفال لم يتلقوا تكوينا خاصا، وهم في أغلب الأحيان ممن تم توظيفهم في السابق من قبل وزارة التضامن عن طريق عقود ما قبل التشغيل. وأحيانا يُضم ضعاف السمع إلى الأقسام العادية في بعض المدارس لأسباب مختلفة.

أما المناهج، فالمطلوب في الطور الابتدائي، كمبدأ عام، أن يتخرّج التلميذ منه وهو يحسن القراءة والحساب. ومن ثمّ كان على المعنيين بضعاف السمع أن يكيّفوا المناهج للتركيز على أهمها وأن يضعوا في الحسبان كون فئة من هؤلاء المعاقين لن يتمكنوا من المستوى المطلوب خلال السنة المدرسية. ولذا فإن جعلهم يعيدون السنة عند “الرسوب” ليس هو الحل الأمثل في نظر بعض الخبراء، بل يستحسن تجنيب هؤلاء التلاميذ إعادة السنة واختبارهم مثلا كل ثلاثي مع إعادة البرنامج للمتخلفين. وكذلك يكون الأمر في المرحلة المتوسطة. فهل من لزوم لتدريس كل المواد وبنفس الحجم لهذه الفئة من التلاميذ المعاقين سمعيا؟ لا نعتقد ذلك.

وفي المرحلة الثانوية : يبدو أن عددا قليلا منهم ينتقل إلى المرحلة الثانوية، وربما الوضع الاجتماعي للأولياء وبعد المسافات لا يسمحان لهؤلاء بمواصلة الدراسة. أليس من الأفكار الجيدة فتح ثانويات خاصة في كبريات المدن لهؤلاء بالنظام الداخلي الذي يسمح للمنتسبين إليها من التلاميذ بالتركيز أكثر على الدراسة مع العناية اللازمة حسب حاجيات كل منهم؟

يبقى السؤال الأبرز: هل إنشاء “مدرسة عليا لأساتذة الصم والبكم” (بهذا المسمى) هو الحل لهذا المشكل الشائك؟ لا نعتقد ذلك أبدا. فهل حاجة البلاد إلى بضعة عشرات من الأساتذة بخصوصية معينة -أو حتى بضع مئات منهم- يتطلب فتح مدرسة عليا لتكوينهم؟!! يرى بعض المتتبعين والأولياء أنه بدل هذه المدرسة العليا التي أقرتها وزارة التعليم العالي كان ينبغي التفكير في “مؤسسة وطنية كبرى متعددة الاختصاصات” لتكوين عدة فئات من المكونين :

1. فئة ممن يتكفلون صحيًا بضعاف السمع عند الولادة وخلال السنوات الأولى،

2. فئة من المربّين يتكفلون بهؤلاء التلاميذ قبل التمدرس،

3. فئة من المعلمين للمرحلة الابتدائية (بعدد يتناسب مع عدد هؤلاء المصابين عبر الوطن)،

4. فئة من أساتذة المرحلة المتوسطة في اختصاصات معينة (بعد مراجعة المناهج وتكييفها مع حاجيات هؤلاء المعوقين)،

5. فئة قليلة من أساتذة المرحلة الثانوية في اختصاصات معينة (بعد مراجعة المناهج وتكييفها مع حاجيات هؤلاء المعوقين).

لذلك كله، نرى من الهدر (حتى لا نقول من العبث) لطاقات الدولة أن ننشئ مدرسة نسميها “المدرسة العليا لأساتذة الصم والبكم”، بل الأجدر بنا أن نسارع إلى فتح مؤسسة وطنية (نصفها إن شئنا بالعليا أو كبرى) تتكفل بتكوين الفئات الخمسة التي أشرنا إليها آنفا، وتكيّف سنويا عدد المسجلين في كل فئة حسب حاجة البلاد. قد يجوز أن نطلق على هذه المؤسسة اسم “المدرسة الوطنية لمربي ومدرّسي الصم والبكم” أو تسمية من هذا القبيل. مثل هذه المؤسسة يمكن، بالفعل، تطويرها كما جاء في قرار مجلس الوزراء لتصبح تدريجيا “مؤسسة ذات بعد إفريقي وعربي”. ذلك ما نتنناه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!