-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مرتكزاتٌ حيوية في التعليم العالي

مرتكزاتٌ حيوية في التعليم العالي
ح.م

تقوم هذه المرتكزات على فكرة قائدة تتوجه نحو تأكيد أهمية الدين الإسلامي في فلسفة التعليمين الجامعي وما قبله، بحيث تغدو علوم الإسلام هي المكوّنة لبنية المتعلم والموجِّهة لمعارف الكون والحياة في عقله وقلبه؛ أي إعادة بعث الحياة من جديد في العلوم الكونية من منظور الوحي، تماما كما كان الحال في العصور الذهبية للمسلمين في دمشق وبغداد وبجاية والأندلس.

ويكون المعلمون والمتعلمون في ذلك سواء بسواء، لتصبح المعرفة متناسقة بين الملقي والمتلقي، فيتوجَّها بها إلى الحياة بمنظور حضاري يراعي العصرنة وحاجات البشر، أي أن يكون التعليم كونيا حضاريا خيريا، لا محليا ماديا مرتبطا بصرامة بسوق العمل، وهي فلسفة “ديوية” نفعية استثمرت فيها الرأسمالية ولا تزال، فحوّلت التعليم إلى وسيلة لغاية هي الربح المادي. أما الخيرية والأخروية فغائبة تماما؛ وذلك سرُّ المشكلات التي يعاني منها التعليم في الغرب والشرق، ولم يستطع الفكاكَ منها لأنه يجهل حقائق الإسلام بل لا يريدها ابتداء.

أما مقاييس التصنيف العالمي التي تعمل بها بعض الجهات المهتمة بالتعليم الجامعي فأغلبها تقنيٌّ لا يمس جوهر التعليم ومبتغاه، ولو فعّل ذلك الجوهر لكانت الجامعات التي تحظى بقمة التصنيف العالمي ليست كذلك، فما أحرانا بمقاييس جديدة مستلهَمة من تعاليم الإسلام تكون موازية لذلك التصنيف وشاهدة عليه.

ليس من الصعوبة بمكان رسم معايير يمكن اتخاذُها عيارا في بناء مناهج التعليم ما قبل الجامعي، ومن ثم استلهام النماذج الناجحة من العصور الحضارية الأموية والأندلسية والعباسية في مناهجنا لتوصيف الخطوط العامة للتعليم الجامعي في تخصصاته كافة، وذلك من خلال تفحُّص سير العلماء البارزين في العلوم الشرعية والكونية، وتفكيك بنيتهم التكوينية والمسلكية، لفهم كيف توصلوا إلى ما توصلوا إليه، وجعل تلك المعالم مرتكزات في تصور جامعات جديدة الروح والمنهج في العالم الإسلامي، تقدم للبشرية ما هي بأمسِّ الحاجة إليه.

كم ضيعت الجزائر وأبناؤها من طاقات وأزمان لا تُقدَّر بثمن، وهي تُعامل كحقل تجارب للفلسفات التربوية الوافد أغلبها من الشرق الاشتراكي أو من الغرب المادي، رغم ما بين دوافع القادة السياسيين عندنا بعد الاستقلال والمتأخرين منهم من تفاوت في النيات، فإن كان عهد بومدين عهد الجد والنشاط، لكنه عهد أخطأ الاتجاه بكل تأكيد، أما عهد “العصابة” كما أصبحت تسمى رسميا، فما فعلته في أبنائنا من تجهيل وتفسيق جريمة نكراء لا تغتفر أبدا.

كانت المدارس الأولى للمسلمين تقوم على معلم مركزي هو المسجد الجامع، ومن حوله تشاد دورُ التعليم والمكتبات، كما كان يلتقي جميع أبناء المجتمع في صحن المسجد لسماع دروس العلم المفتوحة على الفضاء، أو الخطب التوجيهية والسياسية للمسلمين كافة؛ فلا تكاد تميز بين متعلم وعالم، ولا بين محكوم وحاكم، فالكل في الجامع عابد، والكل في الصحن عضو فاعل، لهم مجتمعين دويٌّ كدوي النحل.

إن هذا التمازج بين الدين والحياة جعل النشء يألف الحياة العلمية الحقيقة المستدامة، ويتشكل وعيُه في خضم مجتمع ناشط، ويتموقع لاحقا فيه بسلاسة ويسر، لا تكدِّره وحشة الانعزال عن المجتمع، ولا يتسرب إليه الفساد وهو يترعرع في بيت من بيوت الله تعالى، ولا يعاني من طفولة متأخرة أو مراهقة جانحة وهو يجالس العلماء والحكام. بل لقد وصل الطلاب ليلهم بنهارهم في هذا المعلم الفريد، حتى أينعت عقولهم على إبداعات، عاشوا بها حياة وراء حياة.

لا نزال نرصد مشهد الضياع في التعليم الرسمي للجزائر، فلا نكاد نستشفُّ نجاحا حقيقيا نذكره للناس في كل أطواره، والغريب ألا تسمع من القائمين على الشأن التربوي والتعليمي والبحث العلمي غير الإشادة بالأرقام والإنجازات، وما يُغدق بتفضل من الحكومة على المدارس والجامعات، وذلك كله كذبٌ صراح وتزوير مفضوح يتطلب محاكمة قضائية عادلة.

ما بنا، ونحن من نحن حضارة وتاريخا وخيرات؟ وما شأن هذه الدويلات الصاعد نجمُها من بعيد، ولم تك سوى أرض خالية منذ زمن قريب؟ أم أن الطموح جافانا وعزّ حتى هانت الحياة علينا، وقصرت أعين الناس أن ترانا؟

لنضرب صفحا عن التعليم للوظيف والرغيف، كيما يصبح العلمُ غاية تعبُّدية في حد ذاته، يراعي حاجات المجتمع المسلم أولا والإنساني تاليا، وتلك مزرعة خالدة تُنفق فيها الأعمار، وتُحصد من أجلها الثمار، في توافق عجيب بين الجهد الإنساني المبذول، والمكافأة الإلهية الموعودة، بلا ترجيح ولا تطفيف.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!