-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مستقبل الجزائر في صحرائها

مستقبل الجزائر في صحرائها

لم يكن أحد يشك أنّ مصير الجزائر الغذائي مرتبط عضويّا بثروات صحرائها الشاسعة منذ الاستقلال وإلى اليوم، لكن الطارئ هو أنّ تلك الرؤية انتقلت خلال العقدين الأخيرين مما يخرجه باطن الأرض من ذهب أسود، لا فضل لجزائري على آخر فيه، فهو نعمة ربانيّة خالصة، نحو الذهب الأخضر الذي تنتجه سواعد الرجال المكافحة في بيئة قاحلة إلا من إرادة الإنسان الصبور.

لقد أدّى انقطاع مزارعين عن نشاطهم، وتأخّر آخرين عن جني محاصيلهم في وادي سوف وحدها، إلى إحداث أزمة تجارية في السوق الجزائرية، بعنوان “البطاطا”، حتى صارت سيّدة المائدة حديث الشعب والنخبة ومحور اجتماعات الحكومة والرئاسة على السواء.

وليس ذلك بالأمر الغريب عندما نعلم أنّ هذه الولاية المعطاءة تزرع 300 كيلومتر مربّع، ما يعادل تقريبًا مساحة العاصمة كاملة، ما بوّأها الريادة وطنيا منذ سنوات بتحقيق نصف الإنتاج الجزائري، والتفوّق ثلاث مرات على إنتاج تونس، بل رفعت الجزائر إلى الصدارة القاريّة والعربية، حسب إحصاءات مكتب مُنظمة الأمن الغذائي في أفريقيا.

إنّ الانفجار الفلاحي في وادي سوف لا يقتصر على منتج البطاطا، بل تحقق تقدما لافتًا في عديد الشُّعب الأخرى، على غرار التمور والفول السوداني والزيتون والثوم والخضروات المختلفة، خاصة الطماطم، والفواكه بكل أصنافها، لاسيما البطيخ بأنواعه والحمضيات، بل إن مستثمريها الاستثنائيين صنعوا من وحشة الرمال الجرداء مساحات جماليّة، تزينها كل ألوان وأنواع الورود الطبيعيّة، ناهيك عن مبادرة فلاحين شباب حاليّا بتجارب واعدة لتوطين زراعات وأشجار جديدة تمامًا عن فلاحة المنطقة.

لكن اللافت في معجزة وادي سوف، وهي نموذج حيّ للصحراء الجزائرية، أنّ ما حققته من إنتاج فلاحي قياسي، كمًّا ونوعًا، لم يكن أبدا ضمن رؤية الحكومات المتعاقبة ولا من نتائج تخطيطها الرسمي، بل من وحي التجارب الذاتية لأبناء المنطقة وإبداعاتهم الخلاقة وجهادهم في استصلاح أراض جدباء لا شيء فوقها ولا تحتها، سوى حبات الرمل والحصى، لولا ثروة المياه الجوفيّة.

وللعلم، فإنّ أول مبادرة لزراعة البطاطا قبل ربع قرن بالمنطقة، كانت بساعد فلاح حرّ وبسيط في بلدة قمار التاريخيّة، وبعد ثلاث سنوات من التوسع البطيء للتجربة، عرض فلاحون محليّون على وزير سابق خلال زيارته للولاية تبنّي المشروع بالدعم والرعاية الحكوميّة، فردّ عليهم بالقول، مصحوبًا بابتسامة صفراء، “اعتنوا بالنخيل يكفيكم”.

أمّا غرس أشجار زيت الزيتون بالمنطقة فقد سبق إليه رجل الأعمال جيلالي مهري قبل 30 عامًا، واليوم ثبُت علميّا بعد نجاح الإنتاج المحلّي أنّ المناخ الصحراوي هو الأنسب لتطوير هذه الشعبة، ومنتجها هو الأجود، بقياس معدل الكثافة، بينما لم يكن في الحالتيْن قطاع الفلاحة، بمصالحه وخبرائه، مهتمّا بالموضوع.

ما نريد قوله من هذه المعطيات ليس دعاية جهوية لمنطقة ما، هي محلّ اعتراف وإشادة من كل الجزائريين، بل نقصد لفت انتباه السلطات العمومية أكثر للتركيز عليها، لأنّ الفلاح الصحراوي الذي نستنجد به اليوم لإنقاذ السوق وحماية القدرة الشرائية تواجهه تحديات كبيرة في الحفاظ على حيويّة نشاطه الزراعي أولا، ثمّ لترقية طموحاته الاستثماريّة، بما يجعل من المنطقة قطبا في تغطية الإنتاج والتصدير نحو الأسواق الإقليمية والإفريقيّة.

إنّ رهان تطويع الأرض صار متجاوزا الآن بفضل الإرادة الفولاذية لهؤلاء الفلاحين، بل ينبغي توجيه التخطيط والتنفيذ في اتجاه تطوير الزراعات الاستراتيجية، وعلى رأسها القمح والشعير والصّوجا، والدفع نحو الصناعات التحويليّة لاستيعاب المنتج.

لا يمكن حصر مطالب فلاحي المنطقة في هذه المساحة، لكن من الواجب على الحكومة إيلاء عناية خاصة لتجربة استثنائية ستكون قريبًا جسر عبور بلادنا نحو امتلاك ثروة البترول الأخضر، ما يفرض توفير كل حاجيات فلاحيها وتسوية انشغالاتهم العاجلة ومرافقة أحلامهم الآجلة، لأنها ستكون حقائق المستقبل القريب.

ولعلّ من أهمّ المطالب الملحّة توسيع شبكة الكهرباء الفلاحية والمسالك المعبدة نحو العمق الخارجي حول المدينة المحاصرة بالمساحات المسقيّة، مع توفير الأسمدة العصريّة والبذور، ناهيك عن ضرورة دعم الشباب بالقروض الحلال لتوسعة مستثمراتهم النموذجية في إطار “الانفتاح الفلاحي” بمرافقة مهندسي وخبراء القطاع.

إنّ منطقة وادي سوف لوحدها، لو تتوفّر الرعاية الكاملة للدولة، قادرة على تحقيق الاكتفاء الغذائي للجزائر وفتح آفاق التصدير الفلاحي واسعة أمامها، لما تمتلكه من عنصر بشري فعّال ورؤوس أموال جاهزة وحيازتها أكبر احتياطي للمياه الجوفية عالميّا، فضلاً عن خصائص التربة الرمليّة المحليّة ومزايا المناخ الصحراوي في حال المساعدة للتغلّب على الصعاب الميدانيّة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!