-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مسرحية نهر الجنون؟!

مسرحية نهر الجنون؟!
أرشيف

للأديب الشعبي الكبير والذائع الصيت الراحل توفيق الحكيم مسرحية رائعة جدا تُسمَّى (نهر الجنون)، وهي مطبوعة طبعة شعبية رخيصة الثمن كسائر كتب الأديب توفيق الحكيم التي عرفت انتشارا واسعا وقراء بالملايين يومها.. وقد تعرَّفتُ عليها من خلال كثرة ترداد وذكر أستاذنا الدكتور المفكر (عبد المجيد حنون) يحفظه الله ويطيل عمره ويمتعه بالصحة والعافية في حصصه التعليمية لنا سنوات 1978-1981م بقسم الأدب العربي بجامعة عنابة العريقة.

لم نفقه يومها لماذا يُكثِر أستاذنا الفاضل عبد المجيد حنون من تردادها في حصصه وبخاصَّة عندما يريد أن يشرح لنا نسبية القيم والمبادئ، وانتفاء المطلقية والعمومية والشمولية في عوالم القيم والأفكار والمبادئ، ولكنني اليوم أحسست بما كان يحسه يومها من كبت وقهر وحجر حتى على أبسط الحقوق الطبيعية التي وُلدت مع الإنسان الأول، والتي لا تحتاج إلى قانون ليحفظها أو يُقننها أو يدافع عنها ويكفلها، وشعرت الآن بمعاناة الكثير من أمثاله من صدإ الحديد الذي يلجمه من التكلم وإبداء الموقف وحرية التعبير والرأي، ولعله هو أيضا كان يُحس بمعاناة توفيق الحكيم مع حكم ضباط ثورة 23 يوليو 1952م، ولعلني أسحب القول في تناول مضمونها ليتعرف القراء على الفكرة الفلسفية التي تختزلها وتُخبئها هذه المسرحية الطريفة والمتعددة الوجوه.

المسرحية تدور أحداثها في مملكة بعيدة وقديمة جدا، ولكن الحقيقة والقيمة واحدة والمتداولون عليها مختلفون فقط في أزمنة وأمكنة مختلفة أيضا.. ووقائعها تدور حول شخصية الملك والوزير من جهة، والشعب من جهة ثانية، وبينهما نهر اسمه نهر الجنون، فمن شربه صار مجنونا، والغريب أو الطريف في المسرحية أن الشعب –كما تورد المسرحية- شرب كله وارتوى من نهر الجنون، فصار شعبا مجنونا بامتياز، والملك والوزير لم يشربا من النهر فظل عاقلين، وصارا ينظران إلى الشعب على أنه شعبٌ مجنون، والشعب ينظر إليهما على أنهما مجنونان أيضا، وتبادل الطرفان التهمة بالجنون، فكلاهما مجنونٌ بالنسبة للطرف الآخر، ولات من يفري في القضية ليُظهر لنا من هو السليم والعاقل من المجنون..

ولعل الراحل توفيق الحكيم ساق الأحداث على هذا النسق، وخاف من ضباط ثورة 23 يوليو 1952م فلم يقل إن الملك الوزير شربا من نهر الجنون، بل فضّل أن يبقيهما عاقلين بالغين فاقهين مكتملي العقل والروح، لعلهما ينقذان شعبهما ويأخذان بيده نحو الرقي والتطور، الأمر الذي جعله يَسِمُ الشعب بالجنون درءًا لكل سيف أو مقصلة ثورية تطال رأسه الصغير.. ولاسيما أن توفيق الحكيم كان قد استبشر خيرا بتلك الثورة وعدَّها حدثا تاريخيا مميزا في سجل أحداث التاريخ المصري المعاصر.. وفي سبيل ذلك كتب تمجيدا لتلك الثورة كتابه الشهير (عودة الروح) في جزأين، وقرأه جيلي الفخور بثورة الضباط الأحرار على الملكية والرجعية.. لأن جيلي المغفل علّقَ ومازال يُعلّقُ الأمل على مثل هذه الثورات..وسرعان ما خاب ظنه فكتب سنة 1974م كتابه الشهير يرد فيه على نفسه وعلى أحلامه وتطلعاته وغفلاته.. بل على حماقاته الطوباوية.. التي كان ينتظرها من تلك الثورة التي ستعيد له ولشعب مصر الروح، وهو كتابٌ سماه (عودة الوعي)، وهو صغيرٌ في حجمه ولكنه كبيرٌ في وقعه وتأثيره، وأراده أن يكون صغيرا بمقدار وعيه وفطنته وعودة عقله إليه الذي سرقته أحلام الثورة والثوار والضباط الأحرار.. التي سماها الشيخ الغزالي وعبَّرَ عنها في كتبه الكثيرة (الاستبداد السياسي) و(حصاد الغرور) و(ثلاثين سنة من كفاحنا الإسلامي) و(قذائف الحق) و(الحق المر)… “وهكذا تبين الناس بوضوح ومن خلال مسار الأحداث أن لصوص الثورة أشرس وأقسى وأنكى من لصوص الثروة..” كناية عن الملك فاروق وحاشيته التي كانت تهتمُّ بسرقة ثروات وأموال وأملاك الناس، عوض الضباط الأحرار الذين لم يكتفوا بسرقة المال بل سرقوا كل شيء، فعدوا على الأعراض والضمائر والذمم والأخلاق والطهر والعفاف والأمل والحرية والغد المشرق والمستقبل الزاهر.. وسرقوا كل شيء جميل.. بما أعدُّوه من ترسانة من القوانين الثورية الجائرة، وبما بنوه من سجون ومعتقلات كفيلة بابتلاع شعب معارِض أو مُطالب بأبسط حرياته الطبيعية بأكمله..

تذكرت الراحل توفيق الحكيم بعد أن قرأت سيرته للمرة الثانية في حياتي (القراءة الأولى سنة 1980م والقراءة الثانية سنة 2020م) أي بعد أربعين سنة من الوعي والخبرة والنضج والفهم العميق والتجربة ومعرفة حقائق الأشياء والأشخاص والأفكار والأنظمة والرؤساء والزعماء والثورات.. والتي عنونها بـ(حياتي)، وكان صريحا إلى أبعد درجات الصدق والصراحة، فلن يُظهر نفسه بشخصية النبي المعصوم، أو الصحابي أو الصوفي الزاهد، بل كتب على خلاف جيله (العقاد: أنا) و(طه حسين: الأيام) (أحمد أمين: حياتي).. وعرض تجربته كما هي ولاسيما حياة والديه المتباينة المنطلقات والأهداف، ومساره الدراسي كله، ودراسته في فرنسا، وولعه بالفن المسرحي والروائي والأدبي الذي كانت عليه أوربا يومها، وترْكِهِ لدراسة القانون لحساب الفنون الأدبية..

ولكم كانت دهشتي كبيرة ومُحبطة من عرضه لقمامات الفضائح وسيول الحقائق التي كان يعرضها توفيق الحكيم في كتيبه الصغير العظيم (عودة الوعي)، لأنني كنت مغرما بالزعيم الراحل (جمال عبد الناصر)، بل كنت والملايين من لداتي مخدَّرين برحيق وخطب وتحركات الزعيم القومي العظيم.. الذي سيلقي إسرائيل في البحر، والذي سيوحد الأمة العربية من الخليج إلى المحيط.. واكتشفت أن هؤلاء الزعماء مجرد فقاعات صابون كالتي كنا نُخرجها من أنابيب أقلامنا المكسرة بعد أن نمزج بها الصابون بالماء.. سرعان ما تنفجر وتتلاشى من دون ذكر..

وتعرّض الحكيم للنبش والمساءلة عن مصدر فكرته، فمنهم من ردها إلى أدب اليونان والفرس والهنود والصينيين، ومنهم من رد فكرة مسرحيته إلى الأدب العبري الذي تأثر به في دراسته الأوربية، ومنهم من ردها إلى الأدب الفرعوني.. ومنهم من ردها إلى قصة (مؤمن آل فرعون) التي تحدث عنها الله في القرآن الكريم في سورة غافر (وقال رجلٌ مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله..)).. ومهما يكن أصلُ فكرته، فعالم الأفكار عالمٌ حر وشاسع وتبادلي.. والمهم هنا، بل الأهم والأعظم في من يقف وقت الصمت الرهيب، ولحظة الخوف واحتباس الأنفاس، ووقت طغيان وسطوة وجبروت الطاغية في زينة طغيانه.. ليقول له ما قاله مؤمن آل فرعون.. لقد أخطأتَ وتجبرت وتكبرت.. مختصرا موقفه الرائد في قوله تعالى ((إنما تقضي هذه الحياة الدنيا)).. وهذا هو لبّ الفكرة المسرحية، فيمن يقول للملك والوزير على جبروتهما واصفرار عارضيهما: أنتما مجنونان؟ بل أنتما أكثر جنونا من الشعب كله، ولسنا نحن المجانين، ولكن كيف نُؤتى الشجاعة والجرأة؟ ليس هذا المهم الآن.

ولقد عمل هذا الكتيب عمله فيَّ وفي جيلي التائه والمتيَّم بعبق وصدى الزعيم، أكثر من عمل كتاب (عودة الروح)، وصار توفيق الحكيم من يومها يعبِّر عن روح الأمة ووعيها، عندما وقف مع الحق والصواب، وطُرح عليه يومها هذا السؤال: (لماذا لم تتكلم في حياة الزعيم؟) فأجاب ما أجاب به خروتشوف أعضاء اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب الشيوعي سنة 1953م بعد وفاة الطاغية الجبار ستالين، حينما قالوا له: (وأين كنت أنت يوم فعل الزعيم ستالين كل هذه الجرائم واقترف تلك الموبقات؟) قال: كنتُ مثلكم أخشى على نفسي مقصلة وسجن ومحاكمة ضباط الثورة الأحرار.. وبعدها بسنوات ودّعنا الراحل صاحب (يوميات نائب في الأرياف) و (بجماليون) و (الحمير) و.. ولكنه ترك لنا ولغيرنا دروسا وعبرا وعظاتٍ.. ولكن الظلمة لا يعترفون يوما بأنهم كانوا خاطئين.. حتى يوسَّدوا التراب.. فمتى نعي مسرحية نهر الجنون؟ ورحم الله توفيق الحكيم.. وبارك الله في أستاذنا المحترم (عبد المجيد حنون).. الذي علمنا مسرحية نهر الجنون.. التي آتت ثمارها بعد أربعة عقود، وهكذا الأفكار تحيا وتموت الأنظمةُ الطاغية ولا تجد مكانا يليق بها إلاّ في مزابل الجغرافيا.. وتقبَّل تحيات تلميذك أحمد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • استاذ

    شيء مقرف في حياتي ودت البوح به ...!؟
    كأس فاضت عندما تربى الناس بعيدا عن الحاجة الى القومية العربية والتكاسل عن احداث لحظة في تاريخ البشر ربما كانت ميلاد جديد وحلول لازمة تفي باعطاء دفعة للامم التي تحتوي هاته اللحظة وتؤرخها ...عندما وجدت نفسي لا ادري هل انا حقيقة بحاجة لدرس دعوي كهذا من عندك

  • الجيل الذهبي

    اعلن الانفتاح رغم دخوله الاقسام ببدلة لا يغيرها كل يوم ولا كل اسبوع لكنه ذهبي قلم لا نراه يكتب ولا يقف ولكنه يقرأ ويفهم ويفسر عملياا منضبط يسكن في اي مكان لا يأبه محفظة ثقيلة نوعا ما لا يرى جيدا ينام مبكرا خبزه وعشاؤه ضئيل غداء عدس وبعض الخضار ان كان الارز فلا بأس بذلك مطمئن علة مطمئن فاعل لا اعرف الحركات اين اضعها
    ركيزة علمية منهج بحث قوقعة شحن طاقة متجددة لا يبالي بدخول الراتب ولكنه يعتمد عليه كثيرا

  • الجيل الذهبي

    اعلن الانفتاح رغم دخوله الاقسام ببدلة لا يغيرها كل يوم ولا كل اسبوع لكنه ذهبي قلم لا نراه يكتب ولا يقف ولكنه يقرأ ويفهم ويفسر عملياا منضبط يسكن في اي مكان لا يأبه محفظة ثقيلة نوعا ما لا يرى جيدا ينام مبكرا خبزه وعشاؤه ضئيل غداء عدس وبعض الخضار ان كان الارز فلا بأس بذلك مطمئن علة مطمئن فاعل لا اعرف الحركات اين اضعها