-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مسيرة‮ ‬الإصلاحات‮ ‬التربوية‮: ‬بعض‮ ‬الملاحظات

محمد السعيد
  • 3248
  • 0
مسيرة‮ ‬الإصلاحات‮ ‬التربوية‮: ‬بعض‮ ‬الملاحظات

ورثت الجزائر غداة رحيل الاستعمار الفرنسي عنها منذ 48 سنة خلت، مدرسة مصمّمة أساسا لأبناء المستوطنين، موصدة أبوابها في وجه الجزائرييّن إلاّ القلّة القليلة منهم التي لا تتعدّى نسبتها في نهاية اللّيل المظلم الـ15 بالمائة.

  • وانطلاقا من قناعة مؤدّاها أنّه لايمكن لأي أمّة أن تفوز بمكانة بين مصاف الأمم إلاّ إذا تسلّحت بالعلم والمعرفة وعملت على تأصيلهما، وجب على قيادة الجزائر المستقلّة تصميم مدرسة عصريّة جديدة بمحتوى تربوي مختلف وتوفير أفضل الشّروط  الممكنة لاستيعاب كل الأطفال والبنات في سنّ الدراسة دون التشدّد في نوعيّة وطريقة التّلقين. ولم تكن العمليّة سهلة لأنّ الموسم المدرسي كان على الأبواب والإطار التّعليمي الوطني محدود العدد والتكوين والتجربة والشّارع يهتزّ تحت وقع اقتتال رفاق السّلاح من أجل الاستيلاء على السّلطة؛ والحمد للّه أنّ هذه الفتنة الدّامية خمدت نارها بسرعة، مما سمح للسّلطة الجديدة بالتفرّغ لخوض معركة الجهاد الأكبر، وهي إعادة بناء الدولة الجزائرية على أنقاض نظام استعماري استيطاني عنصري. وكان أن استوجب الأمر في مجال التربية والتعليم،الاستعانة بأساتذة ومعلّمين من دول شقيقة وصديقة وحتى من فرنسا جاؤوا كلّهم من بيئات دينية وثقافية مختلفة وأحيانا بأفكار متباينة تمتدّ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وبعضها وجد في المدرسة الجزائرية المختبر المناسب لها. وتحت ضغط الحاجة سكتت الدّولة عن ذلك إلى حين الانتهاء من إعداد الخلف من أبناء الوطن فكانت الجزأرة (أي إحلال الجزائريين تدريجيا محلّ المتعاونين الأجانب) أوّل خطوة على طريق إصلاح المنظومة التربويّة من أجل بعث مدرسة تقوم على التوفيق بين الأصالة والحداثة أي بين الوفاء لمقوّمات شخصيتنا الوطنية والتفتّح على متطلّبات العصر.  وبعد الجزأرة، جاء التّعريب كإحدى المهام الأساسية التي أسندت إلى اللجنة الوطنية لإصلاح التّعليم التي نصّبت في ديسمبر 1969 . واجتهد السّابقون في بناء أحسن مدرسة تجمع في روحها وبرامجها بين الأصالة والحداثة فاتّفقوا في العلن على التّعريب باعتبار أنّ اللّغة العربية مقوّم أساسي من مقوّمات الشخصيّة الوطنية، ولكنّهم اختلفوا في السر وتبادلوا التّهم هذا يرمي ذاك بالشرقنة، وذاك يرمي هذا بالفرنسة، وكان التيّار الفاعل في الحكم لصالح التّعريب بينما اكتفى التيّار المعارض بالتغلغل في صمت في القطاع الاقتصادي وبعض الوزارات السيادية، فسار التعليم في بادئ الأمر على الازدواجية اللّغوية كازدواجية ظرفية لا مذهبية ثم جنح ابتداء من 1974 إلى التغليب التدريجي للتدريس بالعربيّة في مراحل الابتدائي والمتوسّط والثانوي، وتلا ذلك تطبيق نظام المدرسة الأساسية في بعض المؤسسّات على سبيل التجربة؛ ثمّ رأت السّلطة تقييّم هذه المسيرة، فعهدت بتلك المهمّة إلى وزير التربية الجديد الأستاذ مصطفى الأشرف الذي ما أن تسلّم مهامّه في أفريل 1977 حتى شهّر سيفه في وجه إطارات وزارة التربية وحلّ المدرسة العليا للأساتذة في بوزريعة وأعاد الازدواجية إلى المدرسة وأجّل مشروع المدرسة الأساسية بدعوى قلّة الإمكانيات ونعَت المعرَّبين في سلسلة من المقالات الصّحفية بـ”نبّاشي القبور” (نشرت في جوان 1977 في صحيفتي الشّعب والمجاهد)، ومازال السّؤال مطروحا اليوم عن سرّ هذا الانقلاب لدى الرّئيس بومدين الّذي لم يدافع عن السياسة الجديدة لوزيره وإن ساعده بسكوته على تنفيذها، فهل أراد الرّئيس الرّاحل أن يختبر نتائج التّعريب بعد عشر سنوات من السّعي لتجسيده على أرض الواقع والمناداة به كمطلب شعبي؟ وإذا لم يكن كذلك فهل كان محيطه على علم بمرضه فدخل في سباق من أجل خلافته، وإلاّ كيف نفسّر تعيين وزير التربيّة الجديد في الحكومة الأخيرة لبومدين مع ثلاثة وزراء آخرين  جميعهم سفراء بوزارة الخارجية من حساسية واحدة وهم عبداللّطيف رحّال في التعليم العالي ورضا مالك في الإعلام والثّقافة وجمال حوحو في وزارة الشّبيبة والرياضة، وهؤلاء محسوبون على أحد أبرز الوجوه المرشّحة لخلافة بومدين وهو آنذاك عضو مجلس الثّورة‭ ‬وزير‭ ‬الخارجيّة؟‭.‬
  • وعندما وصل الرئيس الشاذلي بن جديد إلى سدّة الحكم سنة 1979، أعيد إحياء تطبيق المدرسة الأساسية متزامنا مع التّقليص التّدريجي للازدواجية اللغوية في العلوم الاجتماعية والإنسانية والحقوق والعلوم الاجتماعية تمهيدا لتعريبها كليّة، كما استكملت عملية تعريب الإدارة والعدالة والمحيط، وتوّج ذلك كلّه بصدور قانون تعميم استعمال اللّغة العربية في جانفي 1991 وكانت قد انتقلت البلاد آنذاك من مرحلة الأحادية الحزبية إلى مرحلة التعدّدية الحزبية. ولم يمرّ أقلّ من سنة ونصف السّنة حتى صدر عن المجلس الوطني الانتقالي مع بدايات المأساة‭ ‬الوطنية‭ ‬غداة‭ ‬إلغاء‭ ‬المسارّ‭ ‬الانتخابي‭ ‬في‭ ‬جانفي‭ ‬1992‭ ‬ما‭ ‬يجمّد‭ ‬هذا‭ ‬القانون،‭ ‬وظلّ‭ ‬الوضع‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬عليه‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭ ‬ِردّةًً‭ ‬تدريجية‭ ‬في‭ ‬التعريب‭ ‬وإصلاحات‭ ‬تربوية‭ ‬متلاحقة‭ ‬ومغلقة‭ ‬لاغية‭ ‬لبعضها‭ ‬البعض‭.‬
  • إنّ‭ ‬هذه‭ ‬المسيرة‭ ‬المتقلّبة‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬الإصلاحات‭ ‬التربوية‭ ‬تستدعي‭ ‬بعض‭ ‬الملاحظات‭:‬
  • -عندما نتحدّث عن إصلاح المنظومة التربوية غالبا ما تنصرف الأذهان إلى لغة التدريس والحال أن التّعريب جانب من جوانب هذا الإصلاح الّذي يشمل أيضا محتوى الكتاب المدرسي والحجم الساعي وطرق التّدريس ونظام الدّوامين والامتحانات الاستدراكيّة والوضعية المهنيّة للإطار التربوي‭………‬
  • – تأرجح العلاقات السياسية بين الجزائر وفرنسا ربّما لعب دورا في مرحلة ما في إلغاء الازدواجية من التعليم لأن اللغة الفرنسية كان ينظر إليها كإحدى أدوات تنفيذ سياسة الاستعمار الجديد في المنطقة؛ فمحاربة اللّغة الفرنسيّة تعني لدى التيار المعادي، محاربة إحدى أدوات‭ ‬تنفيذ‭ ‬هذه‭ ‬السياسة‭.‬
  • -الصّراع حول التّعريب كان صراعا بين أجنحة السّلطة وهذه الأجنحة تجاهلت الاهتمام باللّغة الأمازيغية التي تحوّلت بفعل ذلك إلى قضيّة سياسية تطرح كنقيض للغة العربية، والحال أنّ اللّغتين تعايشتا في وئام وانسجام منذ الفتح الإسلامي لشمال إفريقيا.
  • ‭-‬‮ ‬لم‭ ‬يأخذ‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬حقّه‭ ‬الكامل‭ ‬من‭ ‬العناية‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬الإصلاحات‭ ‬التربويّة‭ ‬والحال‭ ‬أنّ‭ ‬المعارف‭ ‬العلميّة‭ ‬والتكنولوجية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬نقلت‭ ‬المجتمعات‭ ‬الصناعية‭ ‬إلى‭ ‬عصر‭ ‬الثورة‭ ‬
  • الرّقمية‭.‬
  • ‭- ‬لم‭ ‬نربط‭ ‬بين‭ ‬متطلبات‭ ‬التّنمية‭ ‬الوطنيّة‭ ‬والشّهادات‭ ‬الجامعيّة‭ ‬فتفشّت‭ ‬البطالة‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬خرّيجي‭ ‬الجامعات‭ ‬وأرغمت‭ ‬الكثير‭ ‬منهم‭ ‬على‭ ‬الهجرة‭ ‬والحال‭ ‬أنّ‭ ‬نزيف‭ ‬العقول‭ ‬كالبحث‭ ‬العلمي‭ ‬مسألة‭ ‬تتّصل‭ ‬بأمننا‭ ‬الوطني‭.‬
  • -لم نكن نقدّر دور المعلّم والأستاذ في بناء المجتمع عندما أهملنا الاهتمام بهما مادّيا وتكوينيّا، فانعكس ذلك سلبا على جودة التّعليم وقيمنا الفاضلة والحال أنّ علماءنا وأساتذتنا وطلبتنا عماد نهضة الوطن الّذي لا يبنى بدونهم.

 

 

 

 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!