مشايخ يرقون المنازل بالمتر المربع ويوهمون زوارهم بأنهم مسحورون!
لم تتسع ظاهرة الجن والسحر والعين وسيطرتها على العقول في المجتمعات الإسلامية بهذا الشكل المبالغ فيه، مثلما اتسعت هذه الأيام، ولم تقلب الحقائق ويختلط حابلها بنابلها مثلما هو حاصل الآن، كأن الجن بعشائرها وقبائلها، انتقلت إلى العيش بين ظهرانينا، وطاب لها المقام بيننا، فغلّقت الأبواب، وقالت للناس: “لا شغل لي سواكم”، وكأن السحر أصبح “سلاحاً نووياً” يخشى الجميع أن يصاب بإشعاعاته، والعين تحولت إلى صواريخ “كاتيوشا” تتربص بكل ذي نعمة!
-
فلو أمعنا النظر في أكثر ما يشغل المجتمعات المسلمة، ويسيطر على اهتمامها، لوجدنا هذه الثلاثة قد مدّدت أرجلها فيها، وبسطت يديها عليها، وهو الأمر الذي أكده لنا أحد الرقاة المتمكنين، الذي دأب على استقبال عدد كبير من الأشخاص الذين يهيأ لهم أنهم يشتكون من أعراض تجب فيها الرقية الشرعية.
-
ففي مجتمعنا الجزائري مثلا، بدأ الناس ينسحبون شيئا فشيئا من أوكار المشعوذين مع انبلاج فجر الصحوة الإسلامية، ليبدؤوا عهدا جديدا مع الرقية الشرعية و”غير” الشرعية في ظل انتشار ظاهرة الرقاة المزيفين الذين يسترزقون من الرقية. وليس من قبيل المغالاة، إذا قلنا أن معظم الجزائريين شربوا من كأس الرقية، إن لم يكن من أجل سطوة جني، فمن أجل لسعة بعوضة!
-
استغلال
-
والواقع أن الجن والسحر والعين في المجتمعات الإسلامية، وقع عليها من الظلم ما لا تطيق احتماله، ونسب إليها من الجرائم ما هي بريئة منها، فمن توعّك مزاجه، واختلطت أحلامه بالكوابيس، اتهم الجن، ومن ملّ الصبر من صبرها وهي بانتظار العريس الذي لم يأت، لن يتمكن أحد من إقناعها بأنها ليست مسحورة! ومن كسدت تجارته أو زلّت قدمه أو عطبت سيارته، شرع يحصي عدد العيون التي رمته بسهمها الفتّاك!
-
وقد تنبه بعض الرقاة، الذين كانت “سجلاتهم التجارية” تحمل علامة “مشعوذ” قبل أن يغيروا الاسم والتخصص، إلى هذه الحالات التي تعتري الناس، فرموا شباكهم لاصطياد ما أمكن اصطياده من الحمقى والمغفلين، خاصة من فئة النساء، فصارت صفحات الجرائد تكاد لا تخلو من حوادث أبطالها أشخاص يدّعون أنهم قبضوا على ناصية الرقية، وما هم في الواقع إلا زناة جناة، كما استشعر بعض علماء الدين، خطورة الخبط في الرقية على غير بصيرة من الناس الذين يرمون بكل حمولهم عليها، ثم ينتظرون أن تشرق عليهم الشمس في أعماء الليل، وفي ذلك، حاول العلامة الشيخ محمد الغزالي رحمه المولى تعالى أثناء عمله بالجزائر، أن يخفّف من حدة التعلق بالرقاة فقال: “من ألمَّ به أمر، فليرق نفسه بنفسه”، وقد هاله رحمه الله منذ سنوات طويلة استبداد الجن بعقول الناس، فقال للدكتور محمد سليم العوا، الأمين العام السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ورئيس جمعية مصر للثقافة والحوار: ” أنت تسافر كثيراً إلى أوروبا وأمريكا، فهل رأيت جنياً يركب الأوروبيين والأمريكيين؟! فقال لا، فاستطرد الغزالي قائلاً: فلماذا نحن المسلمين بالذات الذين تركبنا الجن والعفاريت؟!
-
فماذا لو عاد الغزالي إلى الدنيا، ورأى كيف اعتلت الجن سدة العقول والنفوس أكثر من ذي قبل، فصار الكثير من الناس يتوهمون أن بيوتهم وأجسادهم تحولت إلى “شقق مستأجرة” من طرف الجن، يدخلونها دون عقد موقع عند الموثق، ولا يخرجون منها إلا بعصا راق عنيد؟!
-
رقية حسب الطلب
-
العين اللامّة والسحر المدسوس والمدفون و” قبائل”الجن التي تقرر فجأة أن” تستأجر ” جسد أحد الغافلين عن ذكر الله هذه الأمور التي تجب فيها الرقية، لم تعد هي الأمور التي يسترقي فيها الناس و حسب، لأن المسترقين ألقوا بين أيدي الرقاة انشغالات جديدة لا تربطها بالرقية أية علاقة، ولكن لأن المسترقين دبّ اليأس في حياتهم باتوا ينظرون للرقية على أنها طوق نجاة، مثلما يعتبرها بعض الرقاة مصدر رزق وشهرة فأصبحوا يقترحون على الناس النجاح في الدراسة والعمل والتجارة، ورقية من لا يصلي حتى يصلي ورقية البقرة حتى تدر الحليب، والرقية من أجل زيادة محصول الخضر والفواكه ورقية خزّان الماء حتى تحل فيه البركة.. هكذا قال الراقي عبد الحميد رميتة الذي سألناه حول الأمور التي يسترقي فيها الناس، والذي أضاف قائلا: “الواحد من هؤلاء الرقاة، يرقي صهريج ماء سعته 1000 لتر، ثم ينقله في سيارته إلى الأحياء، ليبيع اللتر الواحد من الماء الذي يقول عنه أنه مرقي بـ200 دج، ويضيف الأستاذ رميتة: “أما المنازل والفيلات أصبحت رقيتها مكلفة جدا، حيث أصبح الراقي يحدد ثمن الرقية حسب المتر المربع الواحد، الذي قد يصل إلى 1000دج، وفي نفس السياق، استقدم أحد الأثرياء شابا متدينا تدينا مغشوشا، ليرقي له فيلته الجديدة، فأخذ الراقي شريط القياس، وبدأ يقيس طول وعرض كل حجرة، ثم قدّر رقية الصالون و المطبخ فقط ب12 مليون سنتيما!
-
ومن أغرب ما توصل إليه الجزائريون في “استثمار” الرقية أن رئيس فريق وفاق سطيف، عبد الحكيم سرار، توّقع أن يكون أحد الفرق المغربية التي تقابل معها في إطار نهائي كأس العرب، استعان بالسحر في مباراة الذهاب، لذلك خرج منها بدون أهداف في عقر داره، فأخذ معه دلو ماء مرقي إلى المغرب تحسبا للقاء الأخير وقام برشّه على الشباك، وبالفعل، تمكّن الوفاق من العودة بهدف ثمين من هناك، كان له الأثر الكبير في الفوز بكأس العرب فهل أطفأ ماء الرقية نار السحر؟!
-
مبالغة
-
حول رأيه في الموضوع، بحكم أنه مارس الرقية منذ أكثر من عشرين عاما، قال الأستاذ عبد الحميد رميتة لـ”الشروق”: “منذ سنوات، وأنا أقول أن العين مسكينة، والسحر مسكين، والجن أيضا مساكين، لأن الناس يبالغون كثيرا في إلصاق ما لا يجوز إلصاقه بهم، فبدل أن يواجهوا مشاكلهم بالطرق المناسبة التي تتطلب بذل جهد وتحمل مشقة، أو اللجوء إلى طبيب نفساني إذا ما استدعى الأمر، تراهم يلجأون إلى الرقية مباشرة، وهم على يقين أن ما يشتكون منه، يحتاج إلى رقية، ناسين أوغير واعين، أن هذه الرقية لن تحل بإذن الله إلا شيئا محققا من سحر أوعين أوجن، وأذكر في هذا السياق يقول الراقي أن شخصا زارني يطلب رقية لأخيه الذي يعاني من الأرق والعصبية الزائدة وكثرة التدخين، فقلت له إن كل هذه الأمور ليس لديها علاقة بالسحر أو العين أو الجن، وإنما التعود على بعض السلوكيات الخاطئة التي من ينبغي أن يتلافاها، حتى يتخلص من الأعراض التي يشتكي منها”. وكثيرا ما يساهم بعض الرقاة الجاهلين الذين يتخذون من الرقية مصدر رزق بإيهام الناس الذين يطلبون الاسترقاء، بأن ما أصابهم لديه علاقة بالسحر أو العين أو الجن، حول هذه النقطة روى لنا الأستاذ رميتة عن شخص عاطل عن العمل منذ سنوات، استطاع راق جاهل أن يوهمه بأنه مصاب بالسحر، الأمر الذي جعله عرضة للاضطرابات النفسية، وإن دلّ هذا على شيء، فإنما يدل على الجهل الذي يلف عقول الناس في مجتمعاتنا الإسلامية، التي تعتقد أن الرقية هي المصباح السحري الذي يحل المشاكل المستعصية، ويرجع الأستاذ عبد الحميد هذا “الاتكال “على الرقية أيضا، إلى عدم استعداد الناس لبذل جهد معين من شأنه أن يحسّن أوضاعهم المتردية، سواء كانت اقتصادية أواجتماعية أونفسية، بينما يفتش البعض الآخر عن الشفاء والفرج والتوفيق بين ثنايا الرقية، كنوع من الهروب من مواجهة الحقيقة التي يخشونها.
-
غياب دور العيادات النفسية
-
“من خلال عملي في العلاج النفسي، لاحظت أن أكثر الذين يزورون عيادتي، مرّوا على رقاة ومشعوذين قبل أن يطرقوا بابي” الكلام للأخصائي النفساني بسطيف، حسين موهوبي، الذي يقول في معرض حديثه عن تعوّد الناس على إلصاق كل مشاكلهم بالعين والسحر والجن : “مع أن القنوات الدينية المتخصصة لا تنفّك عن توضيح الحدود التي ينتهي فيها دور الرقية، والأعراض التي تجب فيها، إلا أن الكثير من الجزائريين لازالوا يبحثون عن الشفاء والتوفيق لدى الراقي، الذي يكون أحيانا مشعوذا مع تغيير الاسم، فقط حتى يُقبل عليه الناس”. ويوضّح الدكتور موهوبي أن الأمراض الهستيرية تتشابه في أعراضها مع الأمراض الروحية، لذلك أكثر الذين يلجؤون إلى الرقاة هم مرضى هستيريون، حيث تكون لديهم نفس الأعراض مع المصابين بالمس، ولكن الطبيب النفساني وحده هو الذي يستطيع أن يحدّد طبيعة المرض الذي يعاني منه الشخص المصاب، بينما يعمل الراقي، خاصة الذي لا تكون لديه ثقافة نفسية، بمهاجمة الأعراض وترك الأسباب، الأمر الذي يزيد في تدهور حالة المريض. ويرجع الأخصائي النفساني في حديثه لـ”الشروق” رواج تجارة الرقية، أولا إلى تغييب دور علم النفس، وأهميته في علاج الحالات التي يتولاها الرقاة، ذلك لأن المجتمع الجزائري مازال ينظر إلى العيادات النفسية على أنها عيادات لعلاج المجانين، أو أنها غير قادرة على فهم الأمراض النفسية بسبب غياب الكفاءة، أو لأنها تعتمد على نظريات غريبة لا تتناسب مع تكوين الجزائريين “وحتى نكون منصفين” يقول الدكتور “هناك عيادات لا تراعي قيم المجتمع الجزائري، وهو ما يجعلها تفشل في استقطاب المحتاجين للعلاج النفسي” ويعتبر الدكتور موهوبي في ختام حديثه حول هذا الموضوع، أن الخلفية الدينية أو التراثية تعطي الحظ أكثر للعلاج الروحي المتمثل في الرقية أكثر مما تعطيه لعلاج آخر، أما على المستوى الشخصي، فان إلصاق الفشل والتعثر بالأمور الغيبية، هو عبارة عن ميكانيزم دفاعي ينشأ حينما لا يستطيع الشخص الفاشل أن يواجه حقيقة فشله، والذي يكون عادة هو المتسبب فيه، فيلقي باللوم على العين والجن والسحر.
-
إسقاط
-
من ناحيته، يرى المختص في الأمراض النفسية والعصبية بسطيف، الدكتور “محمد.ع”، أن اتهامات الناس للعين والجن والسحر فيما يصدر منهم من تصرفات غير سوية، هي ناتجة في الواقع عن اعتلال الصحة النفسية، وأنها صورة من صور الإسقاط التي يحاول الشخص فيها أن يطرح عنه الشعور بالذنب بإلقائه اللوم على هذه الأطراف التي لا يملك السيطرة عليها. وغالباً ما يتعزز شعوره بالارتياح كلمّا أكد له الراقي أنه مصاب بالعين، الأمر الذي يعطيه انطباعاً بأنه ذو مواهب كثيرة، وخصال طيبة، وهمة عالية، ما يجعله عرضة للحسد. وفي هذا وذاك هروب من مواجهة الطبيب النفساني الذي يعتبره الكثيرون طبيباً للأمراض العقلية، أي طييبا المجانين.
-
تأخر
-
ويرى الكاتب نذير مصمودي، أن إلصاق الناس فشلهم وخيبات أملهم بالجن والسحر والعين، هو في الأصل مرتبط بالحالة النفسية العامة التي يعيشها المسلمون “وتأخر المسلمين في جميع ميادين الحياة واضح وأكيد، غير أن تبريره بالقضاء والقدر، أو تدخّل الجن أمر لا يستساغ، وأنا كثيرا ما تساءلت لماذا لايصاب الياباني بمثل هذا المس الذي يعطّله عن العمل والإنتاج. هل أن المولى تعالى سلّط الجن على المسلمين وحسب؟!” يقول مصمودي، ويضيف: “إن الجن عالم موجود، ونحن لسنا مطالبين بالتعرف على هذا العالم الذي نؤمن به ولم نره، والذين يعتقدون أن للجن سلطة على الإنسان، هم من يرى أن الإنسان قد يكون معذورا عندما يفشل، أو عندما لا ينتج أو عندما لا يعمل، وهذا عذر أقبح من ذنب، ولم نسمع نحن كمسلمين في تاريخ السلف من قال بمثل هذا القول أوبرّره”.
-
وهن المسلمين
-
صحيح أن المجتمعات الغربية أيضاً تلقي بالظروف والحوادث التي لا تجد لها تفسيراً على عاتق الأرواح الشريرة والأشباح، مثلما هو الحال مع “مثلث برمودا” الذي تختفي في عرضه السفن والطائرات، وإن كانت التفسيرات العلمية الحديثة قد دحضت فرضية الأشباح، ولكن ليس بالحدة التي تعرفها مجتمعاتنا الإسلامية التي تتعلق كثيراً برقاب المجهول، وتلقي بتعثرها وفشلها على القضاء والقدر أكثر من اللازم. والحقيقة أن المسلمين وهنت عقولهم وشاخت قلوبهم، فلم تعد قادرة على مواجهة الشدائد بثباب لا نكوص معه، لذلك تبحث عن أي شمّاعة لتعلق عليها خيبات أملها، وشعورها المتنامي بالإحباط والفشل، وإنصافاً للحق نقول، إن هؤلاء الناس هم من يركبون الجن، ويرمون بظلمهم على العين والسحر، وليس العكس!