-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

معذرة إلى الإمام الزهري

معذرة إلى الإمام الزهري

“الشيخ المحدِّث”! صفة تساهل فيها كثيرٌ من الناس، يمنحونها لمن يشاؤون وينزعونها عمن يشاؤون، لا يراعون في ذلك الشروط التي حددها النقاد، ومن غريب ما تسمع من نوادر في هذا الشأن أن يُسمَّى أحدُهم “الشيخ المحدِّث” وهو على ختم الله لا يعرف أحوال الرواة ولا أصول الروايات ولا يحفظ إلا بضعة أحاديث يدوّرها في المجالس وقاعات الدرس ويخلط سلسلة الرجال فيها رأسا على عقب.

ليس كل من نال الأستاذية في الحديث هو محدِّث، فهذه الدرجة العلمية قد تُنال بما تيسّر من بحوث وموضوعات ليس لصاحبها في أكثرها جهدٌ مميز إلا ما أضاف إليها من تهميشات وتبويبات يحسبها فتحا عظيما وهي في الحقيقة من الموضوعات المطروقة المتروكة التي قُتلت بحثا وخاض فيها من سبقوه طولا وعرضا. ليس العيب أن يأخذ بعضٌ عن بعضٍ في أي علم من العلوم، فالمعرفة العلمية بناءٌ مشترك لا يكتمل إلا باجتماع اجتهادات الأولين والمتأخرين فلا يُقبل من أحد أن يدّعي بأنه “نسيجٌ فريد” وبأنه قد “أوتي من المعرفة ما لم يؤتها أحد قبله”.. إن العيب كل العيب أن يتسوّر بعضُهم المحراب وينسب إلى نفسه من غير استحياء لقبا لم ينله من سبقوه إلا على جسر من المتاعب والمصاعب وإلا بعد أن ضربوا إلى مجالس العلماء أكباد الإبل وزاحموهم بالرُّكب وجالسوهم ردحا من الزمن.

درسنا الأديان وكتبنا فيها ما تيسّر، ولكننا لا زلنا بعد عقود نعتقد بأننا لا نملك من المعرفة بالأديان إلا ما يملكه غيرُنا أو أدنى من ذلك، لم تستهونا الألقاب ولم نوحِ إلى طلابنا ومحبينا أن يسمّونا بغير اسمنا أو أن ينسبوا إلينا صفة عالم بالأديان أو عارف بالعقائد لأننا نحسب أنفسنا دون ذلك بكثير، فلسنا ابن تيمية في معرفته بالتوراة والإنجيل، ولسنا رحمت الله الهندي في معرفته بتناقضات الكتاب المقدس، ولسنا أحمد ديدات في معرفته بالنصوص المقدسة، نحن نكرة في علم الأديان إذا قورنّا بغيرنا، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده.

تردّدتُ في الكتابة في هذا الموضوع لأنه يثير حفيظة كثيرين، ويجلب عليَّ لعنات بعض المتعصبين، إلا بعد أن طفح الكيل وبلغ السيل الزبى وأصبحت الألقاب العلمية توزَّع بالمجان بالليل والنهار، فتحوّل طالب الحديث بقدرة قادر وبين عشية وضحاها إلى “عالم محدِّث” و”مرجع في علم الحديث”؟!

ألا يستحي بعض المتقمِّصين لصفة “الشيخ المحدِّث” من أن يقحموا أنفسهم في عالم ليس عالمهم، ومن أن ينسبوا أنفسهم إلى علم ليس لهم فيه إلا بضاعة مزجاة وبينه وبينهم بُعد المشرقين؟. ألا يستحي بعض هؤلاء من أن ينازعوا بجهلهم الإمامَ الزهري في إحاطته بعلم الحديث وإلمامه بعلم الرواية؟. إن الإمام الزهري رحمه الله ما نال ما نال من شهرة في علم الحديث إلا لأنه جمع بين الحفظ وجودة الاستنباط فحقَّ له أن يقول عن نفسه من باب “وأما بنعمة ربك فحدث”: “ما استعدت حديثا قط، وما شككت في حديث إلا حديثا واحدا، فسألت صاحبي فإذا هو كما حفظت”.

ألا يستحي بعض المتقمٍّصين لصفة “الشيخ المحدِّث” من أنفسهم وهم لا يقدرون على استذكار واستظهار حديث أو حديثين إلا بشق الأنفس، وهم يقرأون في سيرة الإمام الزهري رحمه الله أنه أملى على كاتبه بطلب من هشام بن عبد الملك أربعمائة حديث ثم خرج على أهل الحديث فحدّثهم بها؟ كيف ترتقي قرائح هؤلاء المتقمصين لصفة “الشيخ المحدِّث” إلى قريحة الإمام الزهري؟ وكيف يسمحون لأنفسهم منازعته في صفة لا تنبغي لهم ولا يستطيعون؟.

من المضحكات المبكيات أن أحدهم لا يكاد ينهي رسالته في الحديث بمحاسنها ومساوئها حتى يهرع محبُّوه إلى تتويجه بتاج “الشيخ المحدِّث” حتى وهو من المبتدئين الذين يتلمَّسون طريقهم في علم الحديث ويخطوهم خطواتهم الأولى في هذا العلم؟ إن الألقاب العلمية ليست مُلكا مشاعا، إنها لا تُنال إلا بحقها ولا ينالها إلا من يستحقها، أليس من التدليس وشهادة الزور أن ننسب صفة إلى غير مستحقّها وأن ننزله منزلة لم يرتق إليها؟. أليس من التدليس وشهادة الزور أن تنمَّق شهاداتُ بعضهم بصفة “الشيخ المحدِّث” وهو لم يبلغ في الواقع معشار ما بلغه على الورق؟.

ألا يستحي بعض المتقمٍّصين لصفة “الشيخ المحدِّث” من أنفسهم وهم لا يقدرون على استذكار واستظهار حديث أو حديثين إلا بشق الأنفس، وهم يقرأون في سيرة الإمام الزهري رحمه الله أنه أملى على كاتبه بطلب من هشام بن عبد الملك أربعمائة حديث ثم خرج على أهل الحديث فحدّثهم بها؟ كيف ترتقي قرائح هؤلاء المتقمصين لصفة “الشيخ المحدِّث” إلى قريحة الإمام الزهري؟ وكيف يسمحون لأنفسهم منازعته في صفة لا تنبغي لهم ولا يستطيعون؟.

معذرة إلى الإمام الزهري الذي تجرَّأ عليه بعضُهم ونازعوه عن قصد أو عن غير قصد في فقه الحديث ظلما وزورا؟ وادَّعوا عن جهل ما تورَّع الإمامُ الزهري عن ادِّعائه عن علم. معذرة إلى الإمام الزهري الذي عاش للحديث فوجد نفسه في آخر الزمان ندًّا لجاهل أو متأوِّل يخطئ في علم الحديث كما يخطئ في علم المحادثة، ويخطئ في الرواية الحديثية كما يخطئ في الرواية القصصية.

معذرة إلى الإمام الزهري من جرأة بعض المتقمِّصين لصفة “الشيخ المحدِّث” في ادِّعاء ما ليس لهم وهم يدركون بأن ما نالوه من ألقاب إنما هي ألقابٌ كاذبة لأنهم لم يحصِّلوها بجهد وإنما مُنحت لهم على طبق من ذهب وربما على طبق من كذب، ولا غرابة في ذلك فنحن في عصر راجت فيها هذه الثقافة، والله المستعان.

استمعتُ إلى بعض المتقمِّصين لصفة “الشيخ المحدِّث” ظلما وعدوانا وهم يعِظون العوامّ فكانوا يلفُّون ويدورون من غير أن يقدِّموا  لمستمعيهم شيئا من الفوائد المستنبَطة ليعملوا بها، ليس ذلك بسبب حرص محدِّثيهم على التبسيط وإنما بسبب عجزهم عن التأصيل والتوصيل، وفاقد الشيء لا يعطيه.

ما قيمة أن يسمَّى أحدُهم “الشيخ المحدِّث” ولو امتُحن هذا المسكين في أبسط مبادئ علم الحديث لأسال له ذلك العرقَ البارد ولكان نكتة تتناقلها الأجيال؟ وما قيمة أن يسمَّى أحدُهم “الشيخ المحدِّث” وهو أعجز عن الخوض في علم الحديث بل أعجز عن الحديث لا يستقيم لسانُه ولا يستقيم منطقه؟.

معذرة إلى الإمام الزهري من تصرُّف بعض المتفيهقين الذين أصابهم داء التعالم فالتحفوا رداء العلم وهم إلى ركب الجهّال أقرب وإلى جماعتهم أنسب. معذرة إلى الإمام الزهري من تصرُّف بعض المتفيهقين الذين تجرأوا على علم الحديث وما علموا أنه دينٌ وأن من خاض في الدين من غير علم فقد باء بإثم كبير. معذرة إلى الإمام الزهري الذي كان يتحلق حوله طلابُ الحديث من كل مصر فيجيب كل سائل عن مسألته لا يخطئ في رواية ولا  يتكلّف ولا يتصرّف خارج النص كما يفعل بعض المتقمِّصين لصفة “الشيخ المحدِّث”.

معذرة إلى الإمام الزهري الذي جمع إلى سعة العلم جمال التواضع، فكان يجلس جلسة الأصفياء الأتقياء وليس كما يجلس “الشيخ المحدِّث” المزعوم في هذا العصر، باسطا رداءه، مبرزا صدره، يقلّب نظره في الجالسين كأنما يريد أن يسترهبهم ويستفزّهم ويوهمهم بأنه شمسٌ وهم كواكب إذا طلع لم يبد منهن كوكبُ.

معذرة إلى الإمام الزهري الذي خدم السنة النبوية ونذر لها حياته فلما أدركه الأجل أوصى أن يُدفن على قارعة الطريق حتى يدعو له المارّون. معذرة إلى الإمام الزهري الذي حرص على جمع الأحاديث فشرّفه الله بجمع من الناس يدعون له في كل عصر.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!