-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

معركة نفارين الشهيرة.. محاولة لتصحيح خطأ تاريخي عمّر طويلا

لمباركية نوّار
  • 6505
  • 1
معركة نفارين الشهيرة.. محاولة لتصحيح خطأ تاريخي عمّر طويلا

ينبني التاريخ على حقائق وأحداث غابرة، غرُبت شموسها وأصبحت في حكم الماضي الذي يبتعد أو يقترب في مسافته الزمنية من الراهن المعيش. وأما حصائل الفوائد من دراسته واستخلاص العِبر من أخباره، فلا تجنى إلا بتحليل وقائعه وأحداثه في إطار السياقات الزمانية والظرفية التي وقعت فيه، وتدقيق النظر فيها من منظور نسقي يكامل بين أجزائها وعناصرها، ويقيها شرّ التفكك والانعزال والبتر. ولما كان التاريخ منضويا تحت عنوان العلوم الإنسانية، فمن غير اليسير تخليصه من تأثيرات النزعات الذاتية للمهتمين به حكيا ونقلا وتدوينا، والدفع به إلى مراسي الموضوعية المجردة من الحسابات الأنوية.

حملت خاتمة بحث المؤرخ الدكتور خليفة حمّاش في سطورها ما يلي: (… أما الروايات المتعددة التي تتحدث عن تلك المشاركة وتقول بتحطيم الأسطول الجزائري فيها، فهي رواياتٌ لا تتوفر على المصداقية التاريخية، ولا يمكن الأخذُ بها في الموضوع، فمن جهة هي رواياتٌ غير موثقة وخالية من السند التاريخي. ومن جهة ثانية، هي رواياتٌ متباينة فيما بينها ومختلفة).

للتاريخ المشترك دورٌ كبير في المحافظة على هُويات الشعوب والأمم، ولهذا اعتبر من أهم المباحث التي ضاعفت المنظومات التربوية العناية بها، وتلقينها للنشء الذين يؤمّون المدارس منذ زمنهم التعليمي المبكر، والاعتناء بطرائق تدريسه وتطويرها حتى لا تقع فوائده التكوينية فريسة ملقاة تحت خشونة أظلاف وحوافر أساليب التعليم التقليدية الفجّة، فتدوسه وتجهضه، وتحوّله من أداة بناء وجمع إلى مِعول هدم وتفريق وتمزيق.

مما لا شك فيه أن مرويات التاريخ قديمه وحديثه ومعاصره هي عرضة للخطأ والتصحيف والتحريف لسبب أو لآخر. ولهذا لا يمكن الخوض فيه إلا إذا كان مضبوطا محققا، ومشبعا فرزا وتمحيصا وغربلة، ومأخوذا من أسانيد موثقة تعلوها السلامة المسيّجة بالثبوت والتأكيد والإقرار.

بين التسليم بالرأي القائل إن الأسطول الجزائري في القرن التاسع عشر الميلادي قد حُطِّم في معركة نفارين ومعارضته معارضة تصل إلى حد نفيه القاطع المدعم بالإثباتات والبراهين، مال الدكتور مصطفى حمّاش المتخصص في التاريخ العثماني إلى الرأي الثاني. ورأى بطلان ما ظل متداولا من خلال تنقيب واستقراءات في مصادر مختلفة ومتنوعة أعانته على تصويب خطأ تاريخي تقترب سيادته أن تطوي قرنين كاملين من الزمن. وقدّم لنا قراءة جديدة تنفي مشاركة الأسطول الجزائري وتحطمه في هذه المعركة الفاصلة الشهيرة.

معركة نفارين البحرية التي دارت رحاها في مياه البحر الأبيض المتوسط، وقريبا من ميناء نفارين اليوناني في العشرين من شهر أكتوبر 1827م، واستغرق سريانها أقلّ من أربع ساعات، ليست مجرد معركة عادية كغيرها من الصدامات في عالم الحروب التقليدية والحديثة. وإنما هي من بين المعارك الفواصل التي توّجت الحرب التي أفضت إلى استقلال اليونان عن الدولة العثمانية، وشكّلت حدثا عالميا كبيرا حينها. وبشأن ذلك، يقول الباحث الدكتور خليفة حمّاش بعد دعوته زملاءَه الباحثين إلى الاهتمام بهذه المعركة، يقول: (… معركة نفارين تعدّ أخطر معركة وقعت في البحر الأبيض المتوسط في العصر الحديث، لأنها من جهة أنهت عصر السفن الشراعية، ومهّدت لعصر السفن الآلية. ومن جهة أخرى أخرجت البحر المتوسط من سيطرة الدولة العثمانية الشرقية، وأدخلته تحت السيطرة الأوروبية الغربية. وزيادة على ذلك، فهي ليست معركة عسكرية فقط، وإنما هي معركة سياسية وديبلوماسية وحضارية أيضا). (ص: 40).

من المعروف تاريخيا أن الحرب العثمانية اليونانية استمرت ما يقارب من ست سنوات (1821ـ 1827م). ولم تتردّد الجزائر في الاستجابة لأمر الباب العالي للمشاركة فيها منذ الشرارات الأولى لاندلاعها. وحسب الباحث الدكتور خليفة حمّاش، فإن المصادر المختلفة التي أكدت حقيقة تلك المشاركة قد بيّنت من جانب آخر أن هذه المشاركة لم تُجرَ على مرحلة واحدة، وإنما تقطَّع جريانها إلى ثلاث مراحل وثبُت حضور الأسطول الجزائري في المرحلتين الأولى والثانية حضورا فعليا. أما المرحلة الثالثة التي سطّرت معركة نفارين نهايتها فتحيط بها إشكالية كبيرة، وهي الإشكالية التي استوقفته، وفرضت عليه التقصي في أمرها من جديد بعد أن رأى في الكتابات السابقة حولها تقاعسا واكتفاءً بالشائع الجاهز من الآراء التي تقول بمشاركة الأسطول الجزائري في المعركة المذكورة وتحطيمِه فيها.

انطلق الباحث الدكتور خليفة حمّاش من نقد الروايات التي أشارت إلى مشاركة الأسطول الجزائري في معركة نفارين بدءًا من الروايات الواردة في الكتابات الفرنسية، وكشف بعدها عن صلب الحقيقة، وأظهر درجات الاختلاف بينها بشأن الصورة التي شارك فيها الأسطول الجزائري في هذه المعركة. ومن أبرز أوجه اختلافها السكوت أو التفاوت في ذكر عدد سفن الأسطول الجزائري المشارِكة، وعدد ما تحطّم منها أو خرج ناجيا من بعد هذه المعركة. ويعلق على ذلك بقوله: (… إنها رواياتٌ غير موثقة، مما يجعل مصادرها مجهولة). (ص: 76)، ومن بعد ذلك يستطرد قائلا: (هنا تُطرح إشكالية منهجية خطيرة بخصوصها، وهي إشكالية الثقة، لأن الرواية مجهولة المصدر تعدّ رواية غير معتدّ بها، وغير مقبولة في الكتابة التاريخية شأنها شأن الحديث مجهول الإسناد). (ص: 76).

لم تنجُ الروايات الجزائرية عن الموضوع من انتقاد الباحث الدكتور خليفة حمّاش، وشبَّهها في محتوياتها بالروايات الفرنسية، ووضعها في منزلة أقلّ شأنا منها لكونها منقولة عنها. ولما استرسل في التجريح فيها بجرأة، كتب: (وزيادة على الاختلاف، فإن الروايات الجزائرية تميزت أيضا مثل الروايات الفرنسية بعدم التوثيق مع أنّ مضمونها يبيِّن بكل وضوح أنها منقولة عن الروايات الفرنسية، ذلك زيادة على الاقتضاب وعدم التفصيل. ووُجدت تلك الخصائص جميعا في الروايات التي ذكرها المؤرخون الذين كتبوا التاريخ العامّ مثل أحمد توفيق المدني وعبد الرحمن الجيلالي وأحمد مبارك الميلي ومولود قاسم نايت بلقاسم. كما وُجدت عند المؤرخين الذين كتبوا التاريخ المتخصِّص مثل ناصر الدين سعيدوني وأبو القاسم سعد الله ومولاي بلحميسي وعمار حمداني، وكذلك عند المؤرخين الذين كتبوا التاريخ التربوي “المدرسي” كما وُجد في الكتاب الموجَّه إلى تلاميذ السنة السادسة من التعليم الأساسي. وما قيل أعلاه عن الروايات الفرنسية والجزائرية ، فإنه يقال كله عن الروايات العربية). (ص: 78).

نظر الباحث الدكتور خليفة حمّاش نظرة المتفحص المدقق الذي يجري خلف التبيّن والتثبّت، واستنطق أربعة وعشرين مصدرا صنَّفها إلى مصادر جزائرية وعددها أربعة، ومصادر أجنبية توزعت بين مصادر عثمانية وأخرى أوروبية، وبوّبها تبويبا كرونولوجيا حسب مراحل تتابع أحداث الحرب العثمانية اليونانية حتى بلغ بها المرحلة الأخيرة التي سمّاها مرحلة ما بعد المعركة والنتائج المترتبة عنها. ثم استعرض مصدرين إضافيين مختلفين. واختتم تنقيبه باستحضار ما حملته الكتابات التاريخية من أخبار، وعدَّد منها خمسة مصادر منها مؤلف: “تاريخ إفريقيا الشمالية” للمؤرخ الفرنسي المعاصر شارل اندري جوليان (1891ـ 1991م) ومؤلف ثان صنّفه المؤرخ الانكليزي ديفيد بريفر المتخصص في التاريخ اليوناني، وغيرهما.

حملت خاتمة بحث المؤرخ الدكتور خليفة حمّاش في سطورها ما يلي: (… أما الروايات المتعددة التي تتحدث عن تلك المشاركة وتقول بتحطيم الأسطول الجزائري فيها، فهي رواياتٌ لا تتوفر على المصداقية التاريخية، ولا يمكن الأخذُ بها في الموضوع، فمن جهة هي رواياتٌ غير موثقة وخالية من السند التاريخي. ومن جهة ثانية، هي رواياتٌ متباينة فيما بينها ومختلفة).

وعندما أراد الباحث الدكتور خليفة حمّاش أن يلتمس بأريحيته أعذارا، ويحفظ شيئا من ماء الوجه لمن ساروا خلف هذا الخطأ الجسيم، كتب: (ومن جهة أخرى، فإن ما جعل المؤرخين الذين تحدّثوا عن وجود الأسطول الجزائري في معركة نفارين وتحطيمه بها، يقعون في هذا الخطأ، هو أنهم اعتبروا أن مشاركة الأسطول الجزائري في الحرب اليونانية العثمانية تمّت في مرحلة واحدة امتدت على مدار الحرب التي دامت ست سنوات، وأن الأسطول لم يعُد من المياه الشرقية إلى الجزائر منذ أن غادرها في بداية الحرب. ومن ثم، فالنتيجة المنطقية لذلك أنه شارك في معركة نفارين التي انتهت بها تلك الحرب، ولقي فيها المصير نفسه الذي لقيه أسطولا الباب العالي ومصر). (ص: 141).

قبل أن يرى بحث الدكتور خليفة حمّاش النور في كتاب عنوانه البائن: “الجزائر والحرب اليونانية العثمانية) الصادر مؤخرا عن منشورات كلية الآداب والحضارة الإسلامية لجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، سبق إخراجه في طبعة ورقية أولى وُزِّعت نسخُها توزيعا ضيّقا، ثم في طبعة إلكترونية. وأما في البداية، فقد نُشر كبحث في “المجلة التاريخية المغاربية” التي يشرف عليها المؤرخ التونسي القدير الدكتور عبد الجليل التميمي. وفي نفس الكتاب المذكور، رادف بحثه الذي كان محل عرضنا ببحث آخر عنوانه: “مسألة السفينتين الجزائريتين اللتين كانتا في الإسكندرية قبيل الحملة الفرنسية على الجزائر).

في الأخير، لعلنا نجد فيما استعرضناه ما يسوّغ سؤالنا المركّب والعفوي الذي نوجز صياغته فيما يلي: من كان مستفيدا من هذا الخطأ التاريخي الذي عمّر طويلا؟ ومتى يُكتب له الزوال والاختفاء من كتب التاريخ عامّة، ومن الكتب المدرسية لمادة التاريخ بصفة خاصة؟. 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • ro mi o

    واين تكمن اهمية هذا الموضوع لا توجد حكمة مفيدة - تصحيح التاريخ بمدء الإنحيازية العرقيية و الدينية لا يمكن أن يكون تصحيحا صادقا