-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

معمّر فاروق معامير.. شاعرٌ من نَقاوِسَ

معمّر فاروق معامير.. شاعرٌ من نَقاوِسَ

“نقاوس” أرض الجمال الفاتن والاخضرار المثير، ومناظر بساتينها ساحرة أخاذة، تستولي على عين ناظرها فتبهرها، وترتمي على لبّه فتخطفه. وتأسر قلب من يكرر النظر إليها بعد أن يمتلئ إعجابا بأشجارها المثمرة ذات الأغصان المشذوبة بأيد افتنت في تنظيمها، وبسواقيها المنبثقة من منبعها “رأس العين” الموجود في نقطة مرتفعة من أكمتها الواقعة في جهتها الشرقية، والتي تذهب في انحدارها حاملة ماءها الزلال الرقراق في كرم لا يتوقف إلى كل جهاتها لسقايتها.

من الناحية التاريخية، فإن “نقاوس” بلدة عريقة وضاربة القِدم في أعماق طبقاته، ومعروفة بمآثر رجالها عبر العصور. ولو لم يكن لها نصيبٌ من سجايا الامتياز والتفوق ما كانت تستقطب انتباه الرحالة والمؤرخين العرب والغربيين كالإدريسي وابن خلدون.

جمعت “نقاوس” بين جمال المنظر وحسن معشر قاطنيها. فأهلُها ذوو لباقة ونبل وعزة نفس وأنفة وحميّة على الدين والأرض والعرض. وكل من ينزل في رحابها، ولو طلبا للاستراحة وتجديد الأنفاس والتخلص من عياء السير ووعْثَاء السفر، يغمره الإحساس بأبَّهة المكان والاستئناس بطيبة الإنسان، فيتثاقل في مبارحته، ويتردَّد في تركه. ويجد نفسه مقبلا على مشاركة المؤرّخ الحسن الوزاني  في قوله: (إن من يرِد “نقاوس” يأسف على مغادرتها لفرط ظرف أهلها وحفواتهم).

لم يتوقف سخاء “نقاوس” التي صانت إرثها الكبير من فضائل الماضي على تفتق بذور أشجار المشمش والزيتون في بساتينها الغنّاء بكثرة، وإنما أخرجت للناس شاعرا دُرِّيا وصاحب بريق ساطع، ولكنه متوار. وينافس بملكاته وموهبته أصحاب الكلمة الرشيقة الموزونة، وهو المربي معمر فاروق معامير الشاعر المتميز.

لست أدري كم أنجبت “نقاوس” منذ ماضيها البعيد من الشعراء؟ وإن لم تفعل في سابق عهودها، ولا أعتقد بصحة ذلك، فإن شاعرها المذكور يعوّض ما فرّطت فيه وضاع منها، وحضوره يكفيها لتدارك ما انسلخ بين يديها خلال الأزمنة الماضية. ولا أتخيله إلا شاعرها الأول عن جدارة وأهلية.

عاش الشاعر معمر فاروق معامير في الظل وبعيدا عن الأضواء. ولو كان شويعرا أو شعرورا متشاعرا، أو كاتب روايات أو قصص مدّع وذي زعم مقطوع، ولا يتوقف عن الوقوف في المنابر، ويلهث خلف مصاطب المحافل لذاع اسمُه بسرعة، وشغل الناس. ولو طرق أبواب النشر، لما توقفت الجرائد والمجلات في داخل الوطن وخارجه عن طلب إنتاجه لزفِّه إلى قرّائها، وتنافست النوادي والإذاعات على إغرائه حتى ينزل ضيفا عليها. وكانت أصداء دُرَره قد تجاوزت مسامع المهتمِّين إلى غيرهم في وقت قصير. وكانت أشعارُه التي تشبه الترانيم العذبة والقلائد المذهَّبة من بين النماذج المختارة والمفضلة التي تملأ كتب اللغة العربية في مدراسنا لصقل ذائقات متعلمينا بعد استحسان أذواقها الطيبة المستساغة.

فتح الشاعر المؤدَّب معمر فاروق معامير عينيه على الدنيا في بحر سنة 1949م. وعاش في كنف والد فاضل هو الشيخ مبروك معامير (1926– 2011م) خريج جامع الزيتونة في سنة 1926م، والمجاهد في ربوع القاعدة الشرقية من الأوراس إبان الثورة التحريرية. وبعد استرجاع الاستقلال، ضرب بسهم جهده القاطع في تحريك الحياة التعليمية والثقافية والاجتماعية في “نقاوس”، وتوجيهها الوجهة الصحيحة التي لا تتنكر لقيم الوطن وثوابته، وترفض السقوط في أحابيل المستخرب الفاسد اللعين وفي شراك من استخلفوه من خدّامه بعد رحيله الاضطراري.

بدأ الشاعر معمر فاروق معامير مشوار مرحلة التعليمية تقليديا في الكُتّاب القرآني، ثم انتقل للدراسة التعليمية النظامية متنقلا بين مدرستي “الذكور” و”اليوسفية”، وختمها بالتفوُّق على كل أترابه في كل سنواتها. ثم ارتحل إلى ثانوية الشهيد عباس لغرور بباتنة، ليواصل دراسته المتوسطة. وكان من بين طلابها الذين نالوا إعجاب أساتذتهم لاجتهاده وظرافته وحُسن خُلقه.

ورغم توفر ظروف الاستمرار في تعليمه، إلا أنه فضل الذهاب باكرا، وهو شاب يافع، إلى الحياة المهنية التي بدأها من رتبة معلم في المدرسة الابتدائية واختتمها بعد توليه منصب مدير مدرسة إكمالية. وألزمه جموح عصاميته التواقة إلى مزيد من الاكتساب المعرفي ملازمة الكتاب والقلم والقرطاس في جهد فردي فريد حتى نال شهادة الباكالوريا. ولو كُتب له أن يواصل ويتدرَّج ويرتقي في سلم تعليمه لكان له ذِكرٌ آخر.

لا يعدّ الشاعر معمر فاروق معامير من مثقفي الأبراج العاجية الذين يمتلكهم الغرور والانخداع والباحثين عن الشهرة المزيفة، وما أكثرهم في محيطه القريب، وإنما هو مثقفٌ عضوي نشط في هدوء واندمج وتفاعل بفضل أخلاقه العالية ومرونته المهذبة مع محيطه الاجتماعي الذي حفظ له العهد في كل الظروف. ولعب أدوارا كبيرة في بعث وتأسيس عدة جمعيات تراثية وتاريخية وخيرية وإصلاحية، وما زال يمدها بأفكاره، ولا يبخل عمّن يتقدَّمون صفوفها بالنصيحة الثمينة والتوجيه النافع الرفيع.

لا يجد الشاعر معمر فاروق معامير عناءً في التنقل بين أغراض الشعر، وإنما يهيم في كل واد من أوديتها بلا عسر أو صعوبة، وله من الزاد اللغوي المتين ما يجعله يتنقل بينها بلا حرج أو ضيق. واستطاع أن يلمس بأشعاره أغلب جوانب الحياة، ويصوّرها تصويرا حسنا يستلذه الذوق السليم، ويحتضنه.

تتوفر الخبيئة الثقافية للشاعر معمَّر فاروق معامير البعيدة عن أعين القراء، وبالإضافة إلى أعماله الشعرية التي لم ينشر منها سوى النزر القليل، تتوفر على دراسات تاريخية واجتماعية ونقدية وكتابات وفيرة في علوم اللغة العربية مع قصص قصيرة بعضها موجه لعالم الأطفال. وفي حوزته، أيضا، مخطوط لكتاب قيّم وجامع أخذ منه سنوات طويلة في البحث وجمع المعلومات وتنقيتها خصصه لإحياء أعلام ووجوه من بلدة “نقاوس” وللحديث عن أهمِّ معالمها التي صنعت ماضيها التليد. وهذا يعني أنه من أصحاب الثقافة الموسوعية التي تتخطّى الحُجب والحواجز بين صنوف العلوم.

إن الشعر الذي ينسجه وينظمه الشاعر معمر فاروق معامير يشبه حبّات العقد المرقوم والمؤلف من أحجار كريمة زاهية. وأبيات قصائده شهية كالشهد العقيد، ومقاطعها مصرومة ومنتزعة من شخصيته الوسيمة التي يمكن اختراقها في يسر. فكلماتها عذبة كعذوبتها، ورقيقة كرقتها، وحلوة كحلاوتها، وخفيفة كخفتها، ولطيفة كلطافتها، وشامخة كشموخها. وقريضه غنيٌّ بالمعاني المتألقة والخيال الخصيب كغنى روحه بالفضائل المحمودة. وهو لا يكتب شعرا للترفيه، وإنما يبني أبياتا عن مسؤولية والتزام.

لا يجد الشاعر معمر فاروق معامير عناءً في التنقل بين أغراض الشعر، وإنما يهيم في كل واد من أوديتها بلا عسر أو صعوبة، وله من الزاد اللغوي المتين ما يجعله يتنقل بينها بلا حرج أو ضيق. واستطاع أن يلمس بأشعاره أغلب جوانب الحياة، ويصوّرها تصويرا حسنا يستلذه الذوق السليم، ويحتضنه. حين تغنى بمدينته “نقاوس”، أنشد قائلا تحت عنوان: “نقاوس هبة الله في أوراس”:

نقاوس أنت مثال الجمــــــال

وسر الوجود وقطر النــــدى

حباك الإله جمال التــــــــلال

وطودا أشم يعيد الصـــــــدى

وعين تسيل بمـــــــــاء زلال

تسيل تسيل بطول المــــــدى

أقامت صروحا ذوات جـــلال

وأحيت تراب الرّبى الأسـودا

ولما استرعت انتباهَه أوراقُ الأشجار الذابلة التي تلهو بها نسائم فصل الخريف ذات مرة، تجاوب مع رقصاتها الخفيفة، وتفاعل معها في قصيدة عنوانها: “أوراق”، ونطق فيها بالقول:

أذكروني يا رفاقي في الخريــــــف

أذكروني عند موت البلبل الشريــد

عندما تذبل أوراق الـــــــــــــورود

عندما تسقط ألواح الجليـــــــــــــد

أنظروني يا رفاقي في الخريـــــف

كنت أخشى ذلك الحتف الجديــــــد

اكتملت شاعرية الشاعر معمر فاروق معامير في تجاوبه المستمر مع قضايا أمته. ويظهر هذا التجاوب جليا مع القضية الفلسطينية وجرحها النازف الذي يهز قلبه في كل مرة، ويجعل كلماته تنفجر شلالا مُنثالا بغزارة. وفي قصيدته: “شهيد القدس” نقرأ له:

يا رفيقي في جهادي لن تمـــوت

سوف تحيا في ترابي كالنبـــــات

في نثار الأرض مسكا وعقيـــــقا

في فؤادي آهة تدمي صبواتــــي

في صراخ الطفل لحن خلــــــــود

يتبتل بنشيد النـــــــــــــــــــازلات

لم تغب مأساة عراق الحضارات التي حلت به بعد اعتداء البعيد الماكر لتوقيف زحفه النهضوي الواعد وخيانة القريب البليد غدرا وحسدا، لم تغب عن عين الشاعر معمر فاروق معامير الذي تأسَّف لما آلت إليه أحواله من انكسار وتردّ. وتعاطفا معه كتب قصيدة تفاؤلية يقول في بعض أبياتها:

وماذا لعرب ســــواك

عراقي وملهم جيــلي

وموئلنا في البطــــاح

وحبة روحي وميلــي

وفأل يشع بــــــأرض

فيكتب نصرا ويملــي

ومن شدة يقينه بمستقبل العراق المزهر الذي سيلوح في غده المشرق، يواصل القول:

سيمحو عراق فلــــولا

بكر وفرّ وصــــــــــول

وترفع راية أحمــــــــــ

ـد بين رياحين وفـــــل

ويصحو عراقي عظيما

ويمحو شنارا بسيـــــل

لم تعد “نقاوس” أرض الزيتون والمشمش والشمس فحسب، وإنما هي، أيضا، موطن الشاعر الغريد والبلبل الصداح معمر فاروق معامير، أطال الله أنفاس نبضه الشعري بمسحته الجمالية ومتَّعه بالصحة والعافية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!