-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

معيارُ الكمّ المعتلّ!

معيارُ الكمّ المعتلّ!
أرشيف

كثيرا ما تكون أسئلة البداية شاقة ومجهدة للفكر. ولكن، ونظرا لضرورتها التحريضية، لا يمكن إرجاؤها أو إهمالها. والأسئلة المدخلية الممهِّدة لهذا المقال يمكن حصرها في ما يلي: هل المعيار وسيلة قياس؟ أم هو أداة حكم؟. وأما سؤاله الجوهري، فهو: ماذا يحصل إذا اعتلّ معيار من المعايير؟. ولا مفر من التأكيد على أن “القياس” و”الحكم” هما لفظتان غير مترادفتين، كما أنهما لا تجتمعان على طرفي التغاير. ولكن يمكنهما أن تكونا متكاملتين في بعض السياقات.

يواجَه مفهوم “المعيار” بتعريفات تركيبية متعددة وفق ما يستجيب للمجال الذي يستعمَل فيه؛ فالمعيار في الحقل التربوي يختلف عن المعيار في المجال الصناعي أو التجاري أو الاقتصادي أو المهني أو النفسي أو حتى السياسي. وينبغي أن لا تفوتنا الإشارة إلى أن المعايير “العُرفية” والمعتمدة في الإطار المحلي الضيق بعيدة كل البعد عن المعايير العلمية التي تستعمل عالميا كمراجع وعلى نطاق واسع.

لا أرنو إلى متابعة مفهوم “معيار” متابعة إبستمولوجية تنظر في نشأته، وتتبع المراحل التي تخطاها في رحلته التطورية، والنظر في قفزات ترحيله وتهجيره. ولذا سأحذو حذو من يسير في الطريق القصيرة لبلوغ هدفه سريعا. وسأقتصر على عرض تعريفٍ أكاديمي واحد له، وهو التعريف الذي تبناه الباحث المغربي الضليع في الشأن التربوي الدكتور محمد الدريج. ويؤكد هذا التعريف في منطوقه أن: (المعايير هي عباراتٌ وصفية تحدد الصورة المثلى التي نبغي أن تتوفر في الشيء الذي توضع له هذه المعايير، أو التي نسعى إلى تحقيقها).

لا تحضر المعايير العلمية الدقيقة تماما في حياتنا اليومية العادية، وهذا دليلٌ آخر عن تخلفنا.

كما أنها مغيَّبة في كثير من أعمالنا العلمية بما في ذلك تلك التي ترتدي جلباب الأكاديمية. وبسبب ذلك لم يعُد لنا مع الجودة والإتقان رابط وصل أو جسر ارتباط.

يتراءى لي، ومن خلال عدة ملاحظات حملتني على الوقوف أمامها، أن هناك ترويجا لم تقدَّر عواقبه لمعايير معتلة سار الناس على هديها سيرا عفويا غلبت فيه العادة حتى أصبحت مألوفة. ولم يتوقفوا عن ترجمتها في سلوكاتهم وإظهارها في أعمالهم. وأصبحت ندا شبيها بالمعرفة الشائعة التي تزاحم المعرفة العلمية، ولكنها تعادي التفسير والتعليل والتأويل. وتعمل، كمن يحمل وجها مشوَّها أفسد ملامحَه داءُ الجُدري، على مجاراة المعايير العلمية المبنية على الدقة والوجاهة والسلامة. ولا ترتكز المعايير الشائعة على مؤشرات واضحة وثابتة، وإنما سلَّمت أمرها للهوى والميول والرغبة والاستجابة السريعة لما تعشقه الأنفس وتلذه الأعين.

سيطرت النظرة المعيارية المنحازة إلى الكمِّ المضخم انحيازا أعمى، أي إلى مضاعفة الشيء والإكثار منه وتسمينه وتغليظه، وخاصة إن كان ماديا، من حيث عدده وأبعاده وحجمه وكتلته. وبذلك أصيب الجانب المعياري النوعي بأذى التقليص والحجر والإبعاد. ومن أجل إثبات ما أقصده يمكن أن نمرّ على بعض الأمثلة المعايَنة مرور المستعجِلين.

في الغالب، نخفق في اختيار طعامنا اليومي؛ فنحن لا نأكل من أجل أن نقرن استمرار حياتنا بالمحافظة على سلامة صحتنا. وأَكلاتنا (بفتح حرف الألف، وليس بضمِّه كما هو شائع خطأ) التي نلتهمها لا تستجيب لمعايير الغذاء الصحي المتوازن كما ونوعا. وقد انقلب غذاؤنا بالسوء والدمار على أبداننا، وأصيب أمننا الغذائي في معناه الواسع في صميمه، فنحن نشويون شرهون بالدرجة الأولى، أي نبالغ في أكل النشويات. والخبز والحلويات والعجائن والكساكس وما ماثلها من أطباقنا التقليدية كالثريد والشخشوخة والرفيس بكل أصنافه هي علل تعاستنا وشقاوتنا صحيا. وزادت التوابل والمحسنات الغذائية من اشتهائنا لهذه الأطعمة الثقيلة، وقوّت رغبة التهامنا لها. ومن المعروف أن النشويات هي المصدر الأول لطاقة الأجسام. ولما كان استهلاكها كلها في حينها أو بعد مضي مدة قصيرة من زمن تناولها لا يتحقق، فإن أغلبها يخزن في الكبد أو يتحول إلى مواد دسمة بعد المرور بعمليات استقلابية معقدة، ومن ثم تكدس وتخزن في مخابئ أجسامنا؟. ومع مرور الوقت، تحولت معداتنا إلى أوعية وأكياس يتراكم فيها الطعام، ولا نجد راحة إلا إذا امتلأت عن آخرها. وأصبحنا نحس بالجوع المزمن الذي يدفعنا إلى ازدراد المزيد في أي وقت. وما أشد حاجتنا إلى مراجعة نظام غذائنا على أساس معيار مستقيم ينبذ الكمّ الهالك من الأطعمة النشوية

المسبِّبة للبِطنة التي تنشر الكسل والخمول في أعضاء الجسم، وتطفئ جذوة الحيوية والنشاط فيها.

يشيّد غيرُنا في مساحات أرضية صغيرة مساكن مريحة لا تحتاج إلى مواد بناء كثيرة، وبكلفة مادية معقولة. ويتألف كل مسكن من طابق أرضي وآخر علوي على الأكثر. ويُبقي صاحب المنزل فراغات تفصل بينه وجيرانه وأخرى تجعل الطرق المجاورة تتسع ولا تضيق، فتيسر الحركة فيها، ولا تكتظ حتى في ساعات الذروة المرورية. ولا يمنح بالا كبيرا لعدد الغرف والأبهاء (جمع بهو) والرواقات. وبذلك يحصل على مسكن مضاء طبيعيا من كل الجوانب ومهوى في داخله بهواء متجدد. وما أن تشرق الشمس حتى تخترق أشعَّتُها فضاءه الجواني عبر نوافذه، فتُدفئه وتقلّل من رطوبته، وبذلك تقضي على الجراثيم العالقة في هوائه والنائمة في أفرشته. وتكون النتيجة التقليل من استهلاك الكهرباء والتخفيض من نفقات مصدر التسخين في أيام البرد. وفي المقابل، جعلت النظرة المعيارية الكمية الخاطئة من مساكننا الملتحمة بمساكن جيراننا كالصخور الرسوبية المتراكبة أقباء (جمع آخر لكلمة قبو) وسراديب وقبورا، فهي مظلمة على مدار أيام السنة، ويجوب بخار قدور المطبخ كل غرفها، وفيها من الرطوبة والروائح متعددة المصادر والمنفرة ما ينشر الأمراض التي تتقدمها الحساسية والحساسية المفرطة والربو والصداع والشقيقة… وقد تطول القائمة.

في الحقل التربوي نجد، أيضا، المعيار الكمي المحرّف هو سيد الموقف، حتى اعتقد الكثير منا، ومنهم أولئك الذين يمسكون بين أيديهم بزمام القرارات توهُّما، أن علاج كل الأسقام التي تفتك بجسم نظامنا التعليمي لا يمكن أن يكون إلا في النفخ في المناهج حتى أصبحت كالقواميس الموسوعية، والزيادة في عدد الساعات التي يقضيها المتعلم جالسا على الكرسي في القسم، والرفع من عدد المواد التعليمية إلى حد لا يُحتمل ولا يُغتفر، فأتعبنا المعلم وأنهكنا المتعلم على حد سواء، وحمَّلناهما ما لا يطيقان. وبسبب نفس النظرة الكمية التعسفية، سكتنا عن وباء “الدروس اللصوصية” الذي يشبه داء فيروس الكوفيد؛ لأنها مشمولة بسحر النظرة الكمية الواسعة العمياء. وأصبح المتعلمون والأولياء متعلقين بهذه الدروس المخزية أكثر من تعلقهم بالمدرسة؛ لظنهم أن مضاعفة عدد ساعات الدراسة، ولو في ظروف محزنة ومأساوية، يرفع من درجات الفهم.

 وأصابت عدوى هذا المعيار الخرب كثيرا من المعلمين والأساتذة الذين انحرفوا عن جادة الصواب وانصرفوا عن طريق المعقول. ولم يعد يرتاح لهم بالٌ إلا إذا أظنوا متعلميهم بكتابة كل شاردة وواردة عن الدرس حتى وإن تخطوا حدود المعارف المقررة في المناهج، وزادوا عن كيلها أضعافا. وتنكروا لمعنى كلمة الملخَّص التي تعني الاختصار والإيجاز والاكتفاء بالقليل المفيد. وأما أوراق أسئلة الفروض والاختبارات فلا تُقبل إلا إذا ضاقت ذرعا بما تحمل، وحُشرت فيها المطالب حشرا من غير مراعاة حتى للوقت الممنوح.

لم تشذّ جامعاتُنا التي رأت في تكاثرها هي الأخرى مفازة، ورضيت باحتلال مؤخرات قوائم ترتيب الجامعات عالميا، عما سبق. ولم تُخف انحيازها إلى معيار الكمّ المغالى فيه رغم أنها المؤسسة الأولى المرشحة للانقلاب عليه، ومحاربته بالأسنَّة والرماح، وتوقيفه عند حده. وقبلت أن تبقى تغط في تقليديتها التي تجاوزها الزمن في تقويم أعمال وإنتاجات وإنجازات طلبتها، فالبحوث والرسائل والدراسات لا توزن في جامعاتنا بميزان النظر إلى قيمة مضامينها، وإنما تقدَّر بحجومها وعدد صفحاتها وطول فقراتها وسطورها حتى وإن تشبَّعت بالحشو والإطناب والتكرار والسرقات العلمية، وضاعت متعة متابعة المناقشات العلمية في رحابها بسبب غياب الاحتكام إلى معايير علمية محكّمة ورصينة، واستحوذت على المشاهد الثرثراتُ الاستعراضية المبتورة التي لا تجدي نفعا.

لما جاءت مرحلة الانفتاح السياسي، وفُسح المجال لتأسيس جمعيات ذات طابع سياسي. استيقظ معيار الكمّ المغلظ في الأنفس بتفاهته وحقارته. وفي فترة زمنية وجيزة، عج ركح المشهد السياسي بما يزيد عن ستين حزبا سياسيا. ولنا أن نعتقد أو أن نتوهّم، ولو من باب الاحتمال الذي يشبه الحلم، أنه يوجد في الجزائر ستون برنامجا سياسيا قادرا على قيادة سفينتها، وتوجيهها صوب بر الآمان. وكذلك كان الأمر مع تأسيس النقابات، وخاصة في ميدان التربية، فهل للنقابات التربوية مرتكزاتٌ فكرية حصينة حتى تتناسل بهذه الصورة العشوائية المزرية التي تخفي وراءها أهدافا أخرى مريبة؟.

لم ينجُ حراكنا السلمي الذي أبهر العالم من قبضة معيار الكمّ المعتل، ورغم الطاقات الفكرية التي يزخر بها، إلا أنه رأى في الاستعراض الكمي لأعداد الحراكيين الذين يجوبون شوارع المدن وسيلة المغالبة العليا والأولى. وقد أنساهم التباهي بعدد الأقدام المتحركة التقدم بأفكار خلاقة تطلق سراح الوطن، وتحرر رقبته من عقال التقييد والتثبيط.

لما رُفع الستر عن أفراد العصابة الذين سرقوا أموال الشعب، وجدنا أن الواحد منهم اختلس ما لا يأتي عليه حساب، ولا يحيط به عدّ، فهل كانوا هم كذلك “ضحايا” لمعيار الكم اللعين؟.

إن اعتلال معيار واحد وانقلابه عاد بالسوء والضرر على كل جوانب حياتنا. فما السبيل إلى تصحيح الوضع؟. هذا هو السؤال المحوري الأهم الذي يتفوق على أسئلة البداية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!