-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مغص في الديمقراطية

مغص في الديمقراطية

الدول كالأفراد لا تستطيع أن تتنصل من أصولها. ذلك أنَّ هذه الأصول تظل ذات أثر في السلوك حتى وإن كان الفرد أو الدولة لا يقصدان ذلك. ويشكّل هذا الأصل طبيعة جِبِلِّيّةً تُفرز قيّما وسلوكيات وتصرفات قد يراها الآخرون لا علاقة لها بالقيّم الإنسانية الجامعة كالحرية والحقوق الفردية والسلامة الجسدية وحق الحياة… إلخ.

لقد أجاز بعض كتّاب ومثقّفي العالم الغربي لأنفسهم أن يحتلوا مكان الحَكم والقاضي على بقية سكان المعمورة وبخاصة العالم العربي والشعوب الإسلامية. ورأى هؤلاء (صنّاع الرأي الغربي) أنّ قيم العالم الغربي وحدها تمثل التطور الحضاري الإنساني وأنّ ما سواها أمم همجية وجب إخضاعها لقيمهم أو محاربتهم إلى حد الاستعباد أو الإبادة.

ولست مغاليا فيما أذهب إليه بعد أن قرأت كتابا يحمل عنوانMalaise dans la démocratie لمؤلفه جون بيير لوغوف، حيث يتعرض في مقدمته إلى الأعمال الإرهابية التي عرفتها العاصمة الفرنسية باريس سنة 2015 ليست إلّا انعكاسا لمعتقدات المسلمين أعداء الحرية والديمقراطية والإنسانية، لأنهم يعتدون على الأنفس والأموال والحرّيات بدم بارد، قلبت المجتمع الفرنسي المتحضر إلى ضحية دامعة لجأ أفراده للتعبير عن حزنهم بإيقاد الشموع ووضع أكاليل الأزهار في مكان الجريمة وذرف الدموع في أحضان المحبين رفضا لهمجية من يحملون قيّم الإسلام الهمجية باعتبار كل من خالفهم عدوا يجب استباحة دمه.

هذا تلخيص موجز لما جاء في مقدمة الكتاب.

وبعيدا عن التعصب والتشنج وإعطاء الدروس للآخر، تمنيت لو كان كاتب هذا المؤَلَّف أكثر موضوعية، ورجع إلى المصادر الفكرية الثابتة لتاريخ الغرب وتاريخ المسلمين، وقارن بين الحضارة التي بناها المسلمون والمدنية التي أقامها الغرب بعد القرون الوسطى المظلمة، لاهتدى – إن كان يريد ذلك- إلى الحضارة الحاضنة للمعاني وإلى تلك التي استعبدت شعوبا بأكملها وأبادت بعضها ونهبت خيراتها ومازالت تعيش على آثار ذلك.

إنّ التاريخ لا يكذب. وبمقارنة بسيطة وساذجة يمكن أن نصل إلى أنّ حقوق الإنسان والحضارة الغربية ليست إلّا كذبة كبرى فضحها الماضي الاستعماري والحاضر الاستغلالي.

ولعل جريمة التمييز العنصري لم تعد تحظى إلّا برعاية الدول الغربية الاستعمارية ومن لفّ لفّهم، هؤلاء الذين يختبئون خلف عنوان حقوق الإنسان لضمان تدخلهم في الشؤون الداخلية للدول التي استردت سيادتها بضريبة كبيرة من التضحيات والدماء لتستمر في ابتزاز ثرواتها ومقدرات شعوبها. وقد بيَّن هذه الحقيقة مشروع قانون أعدته منظمة الأمم المتحدة تحث فيه المجتمع الدولي إلى تحرك دَوْلي ضد العنصرية والتمييز.

والمفاجأة أن نتيجة التصويت كانت كالآتي:

106 دولة صوّتت لصالح المشروع (نعم)

14 دولة صوّتت ضد المشروع (لا)

29 دولة امتنعت عن التصويت

ومن الدول المصوتة بـ”لا”: الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، أستراليا، كندا، الكيان الصهيوني، فرنسا، ألمانيا، هولندا. وبقية الدول الأوربية الغربية امتنعت عن التصويت.

إنّ من أهم مظاهر المغس في الديمقراطيات الغربية هي صمت القبور إعلاميا حول هذا الموضوع رغم أنّها تصدع آذان الجميع يوميا في التنديد والتشويه بأولئك الذين يقاومون كل أشكال الطمع والتمييز والاستغلال والاستعباد وأغلبهم من العالمين العربي والإسلامي.

و بمقارنة بسيطة فقط بين الدول التي تكتنز الذهب والفضة وكل الثروات التي لا مصدر لها في بلدانهم مع تلك الأقاليم التي استُعمرت وسُرقت خيراتها ويكاد أهلها أن لا يجدوا ما يستر عوراتهم ويطفئ جوعهم ستعرفون مدى تلاعب هذه القوى الظالمة بشعارات الدفاع عن حقوق الإنسان.

قارنوا بين بلجيكا والكونغو، وثروة بريطانيا وفقر دول وسط وجنوب القارة الإفريقية، وثروة فرنسا وما تعانيه دول جنوب الصحراء، وثروة أمريكا وفقر كل دولة أرادت أن تنقل لها الديمقراطية والحرية. وقس على ذلك كل الدول الغربية الاستعمارية وما خلّفته في مستعمراتها من فقر مدقع وجهل شامل وبؤس مكفر.

إنّ مؤلف هذا الكتاب وابن الغرب المتحضر الذي ارتكب هذه الكوارث الإنسانية لا يجد حرجا في تقييم الإسلام وقيمه ويتّهمه بعداوة الإنسان وحرياته، وأمثاله من التُّبع في أمّتنا كُثُر. إنّه الاستعمار الفكري، وهو أشد وطأ وأكثر ضررا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!