-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
الجزء الأول

مقارنة عسكرية أوّلية بين جيش التحرير الوطني والجيش الفرنسي

مقارنة عسكرية أوّلية بين جيش التحرير الوطني والجيش الفرنسي

في تاريخنا الإسلامي بعيده وقريبه حدثت حروبٌ طاحنة، ووقعت معارك فاصلة بين المسلمين وأعدائهم؛ ولم تكن الكفة الإسلامية راجحة على كفة الأعداء من الناحية المادية، بل لم تكن في كثير من الأحيان حتى مساوية لها. ورغم اختلال الميزان المادي بين القوتين لصالح الأعداء فقد كانت النهاية في أغلب الأحيان لصالح القوات المسلمة كلما اعتصمت بقوتها الحقيقية، وتشبَّثت بحصنها المنيع.

إن أقرب معركة بين قوة مسلمة وقوة كافرة، انتهت بهذا النصر العظيم الذي أثلج صدور المؤمنين وأفرح قلوبهم حيثما كانوا هي معركة الجزائر المجاهدة، التي استمرت سبع سنوات ونصفا، وأعاد خلالها مجاهدونا إلى الأذهان ذكريات أولئك المجاهدين الأولين في بدر، واليرموك، والقادسية، وذات الصواري، والأندلس، وصقيلية والزلاقة، واستامبول، وغيرها من معارك الإسلام الظافرة.

لا بد قبل الحديث عن هذه المقارنة بين القوتين غير المتكافئتين ماديا من دحض فرية، وتسفيه زعم، ونَسْفِ ادعاء.

ذلك أن الذين كبُرَ عليهم –من الغرب والشرق- أن يروا المجاهدين الجزائريين يحققون هذا النصر الباهر، والمجد العظيم، ويُسطّرون هذه الملحمة الرائعة راحوا يفلسفون تلك الهزيمة الشنعاء للجحافل الفرنسية ولمن خلفها من الحلفاء  ويلتمسون الأعذار لتلك الفيالق الرهيبة وهي تعود إلى جحورها مطأطأة الرأس، منكسة الأعلام، منهارة المعنويات.

لقد ادّعى أولئك المتفلسفون أن الجيش الفرنسي كان ضحية تردد في اتخاذ القرار السياسي الواضح من طرف القيادة السياسية الفرنسية؛ أي أن السياسيين الفرنسيين هم الذين حالوا بطريق غير مباشر بين الجيش الفرنسي وبين انتصاره عسكريا على المجاهدين الجزائريين والقضاء عليهم؛ لأن أولئك السياسيين –كما زعم أولئك المتفلسفون- كانوا يرغبون في الحل السياسي للمشكلة الجزائرية، ويحبذون الجانب التفاوضي.

إن تلك المقولة الواهية تهدف إلى شيء وحيد هو سلبُ مجاهدينا وشهدائنا شرفا كبيرا، ونصرا عظيما، تمثل في تحطيم إمبراطورية كبيرة، وتدمير قوة جبارة، وتكسير دولة عظيمة، وتهدف أيضا إلى التشكيك في قدرتنا على مجابهة الخصم، ومقارعة العدو.

وقبل أن أرد على هؤلاء المتفلسفين، وأفنِّد دعواهم، أودُّ أن أطرح سؤالين اثنين:

  • إذا كان المسئولون الفرنسيون يرون أن القضية الجزائرية قضية سياسية بالدرجة الأولى، وأن حلّها لا يكون إلا على هذه الصفة، فلماذا لم يستجيبوا لمطالب الجزائريين عندما طالبوهم بحقوقهم، ولماذا لم يصغوا حتى لتلك الحلول التي عرضها بعض الجزائريين والتي كانت لصالح فرنسا؟
  • لنفرض أن أولئك السياسيين الفرنسيين لم يروا في الجزائريين عزما وحزما قبل نوفمبر 1954، فصمُّوا آذانهم عن مطالبهم، ولم يعطوا أهمية لنداءاتهم، فلماذا يصرُّ أولئك السياسيون على ذلك التَّصَامُم، وذلك الاستكبار، بعد أول نوفمبر 1954؟
  • أمّا الرد على أولئك المتفلسفين –هنا وهناك- فهو أن الإرادة السياسية للمسئولين الفرنسيين هنا وهناك أيضا، من يمينيين متعصبين ويساريين منافقين وحاقدين وما بينهما، كانت مع الحل العسكري منذ البداية، ولم يتخلوا عن هذا الحل إلا بعد أن أُجبِرُوا بالقوة على التخلي عنه، وبعد أن فشلوا ميدانيا في القضاء على المجاهدين.

وإذا حدث أن ارتفع صوت مسؤول فرنسي هنا وهناك مطالبا بالحل السياسي،  فإنما هو من قَبِيل المزايدة على من هم في السلطة حتى إذا تربع على كرسيها أتى بما لم يأت به أوائله، وارتكب أشنع مما ارتكبه سابقوه من جرائم، ولم يتوان أي تيار سياسي فرنسي وصل إلى السلطة في دعم القرار السياسي بالحل العسكري عن توفير كل ما كانت الآلة العسكرية الفرنسية في حاجة إليه من مُعدَّات وتجهيزات واعتمادات مالية، وحشود بشرية.

وها هم يشهدون بذلك:

صرَّح فرانسوا مِيتِران في 5 نوفمبر 1954 –وكان أيامئذ وزيرا للداخلية- قائلا: “إن الجزائر هي فرنسا؛ من فلَانْدَر إلى الكونغو هناك قانونٌ واحد، ومجلس نيابي واحد، وبذلك فهي أمة واحدة: هذا هو دستورنا، وتلك هي إرادتنا”. وقبل أن يجف الحبر الذي كتب به هذا التصريح، وتبرد حرارته عزّزه بتصريح ثان في 7 نوفمبر 1954، جاء فيه: “إن المفاوضات الوحيدة هي الحرب”.

أما سوستيل، وهو أعلى سلطة سياسة فرنسية في الجزائر، فقد أكّد في كلمة له في فبراير 1955 “أن فرنسا هنا في ديارها، إن مصير الجزائر فرنسيٌّ، وهو اختيار قررته فرنسا”. وما كان أكبر مسؤول فرنسي وهو –روني كوتي- رئيس الجمهورية ليتأخر عن الإدلاء بدلوه، واستعداده لبذل كل مجهود للاحتفاظ بالجزائر، فأعلن في جويلية 1957 –بعد أن أصبحت شمس الثورة ساطعة يراها كل أعمش- : “لا يمكن  أن يُعتمد علينا بأن نُضَحِّيَ بالجهة المقابلة من البحر المتوسط، وأن نخلق ألزاس- لورين جديدة”.

وجاء جي مُولي إلى السلطة تحت شعار تحقيق السلام في الجزائر، وظن مَنْ لا يعرفون الفرنسيين أنَّ “اشتراكية” الرجل ستكون عونا له في تطبيق ذلك الشعار الذي خاض المعركة الانتخابية تحته، ولكنه ما أن اعتلى منصة الجمعية الوطنية الفرنسية في فبراير 1956 حتى تساءل في استنكار: “وهل من اللازم أن نؤكِّد على فظاعة النتائج التي سَتَتَرَتَّبُ على تجريد فرنسا من الجزائر؟”،  والْتَمَسَ له البعض أعذارا فقالوا:  ليس في مُكْنَةِ الرجل أن يَصْدُم الرأي العام الفرنسي من أول يوم بقرار يعترف فيه بحق الجزائريين في أرضهم، وطَالَبُوا بإمْهَالِهِ فترة من الزمن، ولكنه لم يزد إلا عنادا وغطرسة، وألقى خطابا في 16 أفريل 1956 جاء فيه:” إن استدعاء شبابنا لخدمة العلم لإرجاع السكينة إلى الجزائر شهادة قاطعة على إرادة الأمة في عدم الخضوع بأي حال من الأحوال”.

ولم يكن منديس فرانس- الذي جمع بين الحقد اليهودي والغطرسة الفرنسية –أقل حماسا، أو أقل تأييدا ودعما للحل العسكري، وأعلن أنه “من الضروري في اعتقادي إحياء الثقة والأمل من جديد في نفوسنا بأعمال ملموسة وشواهد حية، وإلا فإننا سنُطْرَد من الجزائر عاجلا أم آجلا؛  هذا الطرد الذي يتعين علينا واجب منعه ودفعه يدا بيد، وساعدا بساعد”.

وأدلى الماريشال جوان – بما يمثله في فرنسا من قيمة عسكرية ووزن سياسي – بدلوه، وطلب زيادة المجهود العسكري وبذل كل التضحيات اللازمة، فقال في خطاب ألقاه في مدينة ميتز في 5 مارس 1956 :”ليس من شك في أن سياسة التهدئة تحتاج لمزيد من الجهود العسكرية الدائبة للقضاء على نظام (الإرهاب) غير المحتمل السائد الآن في الجزائر، إن المشكلة الأساسية الآن هي المشكلة العسكرية، ولن تحل هذه المشكلة إلا بتصميم الشعب الفرنسي على بذل كل التضحيات اللازمة”.

واُعجِبَ الجنرال “وِيكَان” برأي “مَارِيشاله”، فواصل العزف على نفس النغمة، وردّد نفس الفكرة بحماس كبير، وحرارة أشد، فكتب مقالا في جريدة “لوموند” بتاريخ 30 مارس 1956 جاء فيه: “إن القرار الوحيد الصائب في نظري هو إثارة الحرب بكل الوسائل والاستمرار فيها حتى النهاية إلى أن يتم القضاء على خصم عنيد، واستنادا إلى هذا القرار فقط يستطيع السيد لاكوست الوزير المقيم طلب النجدات العسكرية من الشعب الفرنسي”.

وجاء أكبر مروِّج لأكذوبة الحل السياسي، ليضيف أكذوبة أخرى وهي أنه هو الذي قرّر بملء إرادته أن يعطي الجزائر استقلالها، إنه الجنرال “دوغول”. أما الحقيقة فهي أن دوغول هو الذي خلّص فرنسا من كارثة كانت ستحل بها من جراء ضربات المجاهدين، لو لم يسرع برمي المنشفة في الجولة الأخيرة.. وها هي اعترافاته تشهد عليه:

لقد جاء إلى السلطة وهو عازمٌ على أن يحتفظ بالجزائر لفرنسا مهما يُكلف الأمر، وها هو يعلن في 6 جوان 1958 من مدينة وهران: “إن فرنسا هنا، وهي هنا إلى الأبد”. ومن أجل ذلك أمر أن ” لا يكون هناك تهاونٌ في الجهد العسكري (مذكرات الأمل ص72)، هذا الجهد الذي يتطلب حشد “جيشنا وطيراننا وأسطولنا” (المذكرات ص 225)،  من أجل ” البحث عن الخصم والتغلب عليه وإلحاق الهزيمة به ( المذكرات ص 98).

ولم يُقصّر الجنرال في توفير الاعتمادات المالية لهذا الجهد العسكري، فأمر بوقف “زيادة الرواتب والأجور، وفرض رسوما إضافية بلغت 50 مليارا على الشركات ورفع سعر البنزين، وخفَّض أو أوقف جميع الاعتمادات الممنوحة إلى كثير من مشروعات الأبنية وأعمال التجهيزات (المذكرات ص 156-157).  ومن أعرف من دوغول بما للعامل المعنوي من قيمة لدى المقاتل،  فزار القوات العسكرية الفرنسية في الجزائر منذ جوان 1958 حتى ديسمبر 1960 ثماني مرات، أي بمعدل أربع زيارات في السنة.

وبعد هذا كله فماذا كانت النتيجة؟

يقول الجنرال دوغول الذي ادَّعى هو وغيره أنه تكرّم علينا بالاستقلال ما يلي: “إن الموقف الذي اختاروه –أي الجزائريون- هو تحمل الأذى دون الاستسلام” (المذكرات ص 58).

وأدرك عندئذ أن هذا الاستبسال من الشعب الجزائري “يؤدي إلى بقاء فرنسا تغوص سياسيا وماليا وعسكريا في مستنقع لا قاع له” (المذكرات ص54).

أما جيشه وطيرانه وأسطوله فلم يحققوا له أمنيته في تحقيق نصر عسكري يضيفه إلى ما يدعيه من أمجاد، فاعترف الجنرال أخيرا والمرارة تقطر من فمه بأن “القتال كان شديد الخطر، وأحيانا منهكا، وغالبا مخيبا للآمال” (المذكرات 85).

من هذه الشهادات والتصريحات يتبين لكل ذي عينين أن قضية التردد السياسي في دعم الحل العسكري أوْهَى من بيت العنكبوت، ولا تصمد أمام الحوادث التاريخية، وما هي إلا من باب حفظ ماء الوجه والإبقاء على نوع من الكرامة لجيش جرّار أطلقت يده قيادته السياسية يمينها ويسارها وما بينهما بقانون الطوارئ، وزودته بكل مفيد ومُقَوّي من المواد الغذائية والآليات العسكرية، وفعال من التجهيزات الحربية؛ ولكنه فشل أمام فئة من المجاهدين أحبوا الاستشهاد في سبيل الله، فأكرم الله بعضهم بالشهادة، وأفرح بقيتهم بالنصر المبين.

والآن أستسمح القارئ في أن أعرض بعض العوامل التي كانت من الناحية العسكرية في صالح الجيش الفرنسي، وقد استغلها أحسن استغلال لتحقيق هدفه العسكري، ولكن صمود المجاهدين واستبسالهم، وحسن تعاملهم مع هذه العوامل التي لم تكن في صالحهم فوّت على العدو رغبته ومُنْيته.

أولا: الموقع الجغرافي:

إذا كان مفلسفو الهزيمة الفرنسية في الفيتنام قد ركزوا على العامل الجغرافي في سبب الهزيمة لبُعْد ميدان القتال عن قاعدة الإمداد الرئيسة –وهي فرنسا- فبماذا سيعللون هزيمتها في الجزائر التي لا يفصلها عن فرنسا إلا البحر المتوسط؟

إن قيمة هذا العامل الجغرافي بالنسبة لفرنسا تتمثل في الآتي:

  • قرب المسافة بين قاعدة الإمداد الرئيسة –فرنسا- وميدان العمليات الحربية –الجزائر- وهذه المسافة تعتبر قصيرة بمقاييس الحروب العصرية، بالإضافة إلى خُلُوّ هذه المسافة من أيّ عائق يعرقل الحركة بين الموقعين.
  • هذا القرب الجغرافي يحقق ويضمن للجيش الفرنسي السرعة في نقل المعدات والتجهيزات والجند، فإذا كان نقل مثل هذه المعدات وغيرها من فرنسا إلى الفيتنام يتطلب ثلاثين يوما مثلا، فإن المدة الزمنية لنقل ذلك إلى الجزائر لا يتجاوز 48 ساعة بالباخرة، أما إذا نقلت جوا فإن المدة تنزل إلى ساعتين أو ثلاث.
  • هذا القرب الجغرافي يخفّضُ أيضا بشكل كبير التكاليف المالية، فلو افترضنا أن نقل دبابة من فرنسا إلى الفيتنام يكلف الخزينة الفرنسية مائة ألف فرنك، فإن هذه التكلفة في حال يكون النقل إلى الجزائر تنخفض إلى العُشُر، أي أن ثمن نقل دبابة واحدة إلى الفيتنام يغطي نقل عشرة دبابات من فرنسا إلى الجزائر.
  • لهذا القرب الجغرافي مردود جيد على معنويات الجيش الفرنسي، لأنه يعرف أن المساعدة المالية والدعم البشري سيصلانه في وقت قصير فيعطي مجهودا قتاليا أكبر.

.. يُتبع

* سبق نشر جزء من هذه الدراسة في الثمانينيات، وها نحن ننشرها كاملة.

* يقول الجنرال دوغول الذي ادَّعى هو وغيره أنه تكرّم علينا بالاستقلال ما يلي: “إن الموقف الذي اختاروه –أي الجزائريون- هو تحمل الأذى دون الاستسلام” (المذكرات ص 58).

وأدرك عندئذ أن هذا الاستبسال من الشعب الجزائري “يؤدي إلى بقاء فرنسا تغوص سياسيا وماليا وعسكريا في مستنقع لا قاع له” (المذكرات ص54).

* صرَّح فرانسوا مِيتِران في 5 نوفمبر 1954 –وكان أيامئذ وزيرا للداخلية- قائلا: “إن الجزائر هي فرنسا؛ من فلَانْدَر إلى الكونغو هناك قانونٌ واحد، ومجلس نيابي واحد، وبذلك فهي أمة واحدة: هذا هو دستورنا، وتلك هي إرادتنا”. وقبل أن يجف الحبر الذي كتب به هذا التصريح، وتبرد حرارته عزّزه بتصريح ثان في 7 نوفمبر 1954، جاء فيه: “إن المفاوضات الوحيدة هي الحرب”.

* جاء جي مُولي إلى السلطة تحت شعار تحقيق السلام في الجزائر، وظن مَنْ لا يعرفون الفرنسيين أنَّ “اشتراكية” الرجل ستكون عونا له في تطبيق ذلك الشعار الذي خاض المعركة الانتخابية تحته، ولكنه ما أن اعتلى منصة الجمعية الوطنية الفرنسية في فبراير 1956 حتى تساءل في استنكار: “وهل من اللازم أن نؤكِّد على فظاعة النتائج التي سَتَتَرَتَّبُ على تجريد فرنسا من الجزائر؟”،

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!