-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مقدّمة حركة القرآن المجيد في النّفس والمجتمع والتّاريخ

أبو جرة سلطاني
  • 642
  • 0
مقدّمة حركة القرآن المجيد في النّفس والمجتمع والتّاريخ

لو أغلق رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- باب الاجتهاد في الدّين لم يعد لأحد قولُ كلمة في كتاب ولا في سنّة، لكنّ باب الاجتهاد مفتوح بشرطه وضوابطه وآدابه ومقاصده، فالله حفظ كتابه ودعا إلى تدبّر آياته والنّظر في الكتابيْن المسطور قرآنا والمنظور كونًا؛ ولم يقصر حقّ التّأمّل والنّظر على أحد من علمائه ولا على جماعة ولا على “مجْمع علميّ” مهما كانت درجة إحاطة المنتسبين إليه بالتّأويل ورسوخهم في العلم وعلوّ كعب مراجعهم في الفقه والتّفسير.

فمن شاء الله رفْعَه بالعلم رفعَه به، ولو لم يكن من أجيال القرون الثّلاثة المشهود لها بالخيريّة: ((نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)) (يوسف: 76). هكذا بإطلاق، وترك لكلّ جيل حظّه من الفتوح الربّانيّة، فلو كان تفسير القرآن جملةً واحدة متاحًا لبشر لفسّره رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- كاملا وأغلق باب التّأويل على اللاّحقين، أو لفعل الصّحابة -عليهم الرّضوان- ذلك بعدما جمعوا القرآن في مصحف واحد منقول من الصّدور وممّا كان بين يديْ بعضهم من صُحف، وقالوا لنا هذا: “مصحف عثمان” وهذا “تفسير الصّحب الكرام” فلا اجتهاد بعد زمن الصّحابة.

لو فعلوا ذلك لقالوا على الله شططا وأغلقوا باب الاجتهاد في فهم كلام الله على اللاّحقين، وعطّلوا بذلك أزيد من خمسمائة فعل أمر وردت في القرآن الكريم تحثّ على التّفكّر والتّدبّر والتّأمّل والنّظر. وما تحرّك القرآن -بعدهم- في النّفس إلاّ بتقليد من سبق، وما كان لأحد بعدهم حقّ في تدبّر آيات الكتاب المبين.. لكنّهم لم يفعلوا لِعلمهم أنّ الإيمان ليس فقه أحكام، وأنّ العقل لا يستقلّ وحده ببحث عالم الغيب ما لم يستند إلى نقْل، والنّقل حيٌّ متحرّك لا يحيط به عقل جيل واحد ولا يحويه اجتهاد من عاشوا زمن التّنزيل بدليل اختلاف فهمهم لكتاب الله والرّسولُ -صلّى الله عليه وسلّم-بين ظهرانيهم. وقد نزل القرآن بتقرير الاختلاف في الأحكام الاجتهاديّة في غيّاب النصّ حتّى لو كان المجتهدان نبيّيْن؛ ففي قضيّة واحدة حكَم نبيّان حُكميْن مختلفيْن أقرّهما الله (جل جلاله) ولم يشنّع على داود -عليه السّلام- كما لم يجعل حكم سليمان -عليه السّلام- وحيًا مع أنه فهّمه فأُلهم الصّواب: ((وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا)) (الأنبيّاء: 78- 79)، هذه ليس قصّة وإنما هي تشريع.

فكلام الله مرجع الدّين الحقّ الذي أثبت الزّمن قدرة نصوصه على التّجدّد بما لها من مرونة وإحاطة وقدرة على استيعاب أقضيّة الحياة كلّها وحركة النّاس فيها وصلاحه لكلّ زمان ومكان، ومناسبته لحياة أيّ إنسان على أيّ حال وفي كلّ آن؛ إذا أحسن العقل النّاضج قراءته وتدبّره والالتزام بهدْيه وفقهَ مراد الله من إنزاله خاتما ومهيمنا وهدًى للعالمين. فألفاظ القرآن واسعة الدّلالة؛ فلفظ “خيْر” مثلا يستغرق كلّ ما هو نافع وليس فقط ما كان مالا كما ظنّ السّلف: ((وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)) (العاديات: 8)، وكلمة “كوثر” تجمع كلّ ما يتصوّر الإنسان تكاثره من عطاء الدّنيا والآخرة: ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)) (الكوثر: 1)، وكلمة “عفْو” تعني كلّ ما زاد عن الحاجة: ((وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ)) (البقرة: 219)… وهكذا. فالقرآن مقاصدُ وغاياتٌ قبل أن يكون رسومًا وكلمات. وبالفهم الواسع لمقاصده لا يمكن أن يوجد تفسير نهائيّ لكلام الله ينهي إعجازه ويلمّ بعجائبه ويغلق به السّابقون على اللاّحقين أبواب الاجتهاد فيه بالنّظر والتّأويل والفهم والتّفسير، أو بما يفتح الله به على أهل الذّكر وعلى الرّاسخين في العلم من عطاء كلّ جيل، ولو كان في الآخرين؛ فلا أحد يعلم أين أودع الله الخير: في أوّل الغيث أم في آخره؟ وفي هذا المعنى لطيفتان:

الأولى: الفرق بين العالم والدّاعيّة، فهو نفس ما بين علم المسائل وعلم الفضائل؛ فالذين حملوا كتاب الله للنّاس دعوةً وبلاغا اكتشفوا ثغرات مفتوحة في حصون دعوتهم أغلق السّابقون من علماء الأمّة دونها باب الاجتهاد لما انتصروا فقعّدوا للدّعوة بنفسيّة “فقه المتغلّب” الذي يقسّم العالم إلى دار حرب ودار سلام! وإلى أمّة دعوة وأمة إجابة وجماعة المسلمين و”أهل ذمّة” وأهل “الحلّ والعقد” والدّهماء.. الخ، وكلّها مفاهيم لفقه المتمكّن في عصور الغلبة، وهي اجتهادات صائبة كانت صالحة لزمان المنتصرين وحركة الفاتحين، ولكنها ضيّقت متّسعا على أزمنة “فقه الاستضعاف” الذي يبحث فيه المسلمون عن “دار أمان” قبل سعيهم إلى “دار إيمان”، وينتصر فيه الإسلام للأقليّات المستضعفة قبل حديثه عن سواد المسلمين جغرافيّا بين المحيط الأطلسي وجزر النّار.

والثّانيّة: الفرق بين التّفسير وتحريك القرآن في النّفس؛ فتعطيل فهم كلام الله بضوابطه وتفسيره بشروطه حكْمٌ منافٍ لصريح ما حضّ عليه القرآن نفسُه العقلَ البشري على تدبّر وتفكّر ونظر.. وعجبه ممّن لا يتفكّر وتقريع من لا ينظر: ((أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)) (الغاشيّة: 17- 20)؛ فالتّفكّر عبادة والتّفكير فريضة، ومن عطّل عقله عن تدبّر كلام الله انطلت عليه حيل التّأويل؛ ففتنة تأويل القـرآن بدأت في “معركة صفّين” زمن الخليفة الرّابع -رضي الله عنه- يوم رُفعت المصاحف فوق أسنّة الرّماح وتنادَى القوم بتحكيم كتاب الله بينهم، وقالت فرقة منهم: ((إنْ الحكمُ إلاّ لله)) وهي جزء من آية في سورة يوسف ولكنّها وُضعت في غير موضعها وقُرئت مفصولة عن سياقها واستُشهد بها في غير محلّها وسُلخت من “وحدة الوحي”، فقاد هذا التّأويل بعض الفرق المتشدّدة إلى ليّ أعناق النّصوص وتطويعها لخدمة مذاهبهم فصدق عليهم ما قاله فيهم الإمام عليّ -رضيّ الله عنه-: “هذا حقّ أريدَ به باطلٌ”، أو قال: “كلمة حقّ أريد بها باطل”. فذهبت مثلا لكلّ حدث ظاهره حقّ وباطنه باطل. كتكفير المتأخّرين في زماننا الأنظمة كلّها بإطلاق حكم الله عليها بالقول: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) (المائدة: 45)، مع أنّ “مَنْ” عاقلة تستغرق الفرد الذي لا يُحكّم شرْعة الله على نفسه، كما تستغرق الأسرة والجماعة والمجتمع والدّولة.

ما حكم الفرد الذي لا يعيش الإسلام شرْعة ومنهاجا؟ وما حكم الأُسَر والجماعات الإسلاميّة والمجتمعات التي لا تدين بشرْعة الإسلام وتتهم الأنظمة؟ إذا حرّرنا نقاط هذه المسألة وصلنا -في نهاية المطاف- إلى الحكم على الأنظمة والدّول التي هي مجموعة أفراد وأسر وجماعات وأحزاب ومنظّمات.

كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يعلم يقينًا أنّ عقول النّاس كالأوعيّة تتباين أحجامها ووسعها وإيتاؤها وقدراتها على الاستيعاب، ويعلم -بتجربته لمن حوله- أنّ فهمهم للدّين لن يكون واحدا طالما لم يكن فهم عمر كفهم أبي بكر، ولا فقه علي كفقه عثمان، ولا حفظ ميمونة كحفظ عائشة.. فاستيعاب العقل لمعاني القرآن الكريم يخضع للتّنشئة والبيئة والثّقافة ومستويات الإدراك وقوّة الإيمان.. وقبل ذلك لِما وهب الله كلّ امرئ من الذّكاء والفطنة والقدرة على الفكّ والتّركيب والتّحليل والرّبط والاستنباط.. وتبعًا لذلك يتفاوت حرص النّاس على إنفاذ أوامر الله ونواهيه في أنفسهم وعلى من هم تحت إمرتهم، كما تتفاوت درجات الأخذ بالعزائم والتّرخّص وحمْل النّاس على الالتزام بأحكام الإسلام والتماس عدم الغلوّ والتّشدّد من آخرين. فالدّين واحدٌ لا جديد فيه، ولكنّ فهمه يتجدّد كلّما جدّت للنّاس أقضيّة حياتيّة في حركة النّفس والمجتمع والتّاريخ، في الزّمان والمكان والحال وفي أعراف الناس. ودليل ذلك أسئلة بعض أمّهات المؤمنين -رضي الله عنهن-، وكثير من الصّحابة -عليهم رضوان الله- رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-حول معنى هذه الآية أو تلك، فلو كان القرآن مفهومًا لديهم، أو كانوا على فهم واحد لآياته، ما سألوا عنه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ومَا تنزّلت صيغة “يسألونك” خمس عشرة مرّة في ثماني سوّر؛ مما يؤكّد أنه لا يوجد “فهم مشترك” جامع لما أنزله الله على رسوله.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!