الرأي

مناظرات تونس.. و”مناحات” الجزائر

حسان زهار
  • 1671
  • 12
ح.م

ما إن بدأت مناظرات الرئاسيات في تونس، بالديكور الجميل والأنيق.. حتى بدأ النواح واللطم في الجزائر.

جماعة “مدنية ماشي عسكرية”(..) اقتنصوا الفرصة التاريخية هذه طبعا، وبدأوا في موال عظيم، وفي بكائيات لا نهاية لها.. كيف لتونس الصغيرة تسبقنا بسنوات ضوئية في مجال الحريات والديمقراطية؟ لا شك كما يزعمون أن العسكر هو السبب.

الايحاءات ذهبت مباشرة، إلى استجلاب صورة الجنرال رشيد عمار، قائد الجيش التونسي الأسبق، كيف رفض أوامر بن علي في سحق المتظاهرين، وكيف كان سببا في هذه اللوحة التونسية الجميلة من الديمقراطية والحريات..

بينما كانت السهام لقائد اركان الجيش الجزائري أحمد قايد صالح.. كما لو أنه استجاب لأوامر العصابة بسحق الحراك، أو كأنه لم يطالب بوتفليقة بالانصياع لصوت الجماهير، أوكأنه لم يدخل كل العصابة إلى السجون استجابة لصوت الشعب؟

بينما تجاهلت تلك القراءات أي مقاربة بين ما قام به قائد الجيش المصري المشير طنطاوي وما يجري بالجزائر اليوم.. لصالح المسار الديمقراطي، والذي أفضى في مصر حينها لانتخاب أول رئيس مصري منذ 5 آلاف سنة، لأنها مقاربة لا تخدمهم.

وما فات عن مخيلة النواحات.. أن الديمقراطية مسار وتدرج، وأنه بعد ذهاب بن علي، لم يتوقف الشعب التونسي عند رؤية رموز النظام القديم وهي تتصدر المشهد، أمثال فؤاد لمبزع، محمد الغنوشي، والباجي قايد السبسي وغيرهم.. بل ذهب رأسا الى محاولة بناء نظامهم الجديد.. وتجاوز أصوات التعطيل عكس ما نقوم به نحن حاليا.

ثم ليست الاشكالية أبدا في المناظرات وفي الديكور وفي الواجهة الاعلامية، لقد كانت الجزائر سباقة لهذه المظاهر الخداعة بداية التسعينات.. وكم كنا ننتشي لرؤية المناظرات والسجالات السياسية العالية التي ينشطها أمثال عباسي مدني، سعيد سعدي، عبد الحميد مهري، نور الدين بوكروح وغيرهم.. قبل أن تنقلب الآية رأسا على عقب، لنصبح على ما فاتنا من النادمين.

المشكلة أن نسبة كبيرة من الذين يسوقون اليوم للديمقراطية التونسية، كانوا على رأس من دعموا الانقلاب على الديمقراطية الجزائرية عام 1992.. فلقد أزعجتهم وقتها أن تكون للجزائر ديمقراطيتها التي تفاخر بها العالم، ولم يكن يهمهم رؤية المناظرات التلفزيونية ولا الحملات الانتخابية، كما يروجون اليوم، وإنما كان يهمهم فقط أن تحكم الأقلية.

وللغرابة، هؤلاء وبعد أن حطموا ديمقراطية الجزائر الفتية، رأيناهم بعد ذلك، يدندنون على نفس النغمة الحالية للديمقراطية التونسية، بحلتها البورقيبية العلمانية، حتى أن بعضهم كانوا يطالبون باستنساخ قانون الأحوال الشخصية التونسي بحذافيره، انتصارا لمكبوتات جنسية بحتة تجاه مفاهيم خاطئة لحرية المرأة.

نحن لا نترفع عن تجارب الآخرين.. ويهمنا أن نتعلم ما يصلح حالنا.. لكن ليس بإغفال المسارات والسياقات المختلفة.. والتي سيؤدي عدم الاخذ بها إلى الوقوع في فخ المقاربات الوسخة، أو المقاربات الغبية على أقل تقدير.

تونس ليست الجزائر.. تاريخا وموقعا وامكانيات بشرية واقتصادية، وتأثيرا في العالم وفي استراتيجيات الصراع الدولي، علاوة على موضوع وجود “أقلية” في الجزائر ودروها الخطير في فرملة مسيرة التحرر الوطني والاستقواء بالخارج.

وما يسمح به لتونس قد لا يسمح به للجزائر.. تماما كما أن ما يسمح به للبنان.. قد لا يسمح به لسوريا أو مصر أو السعودية.

لقد تخلت فرنسا الاستعمارية عن تونس وعن المغرب، وعن عدد كبير من الدول الافريقية، فقط لكي تحتفظ بالجزائر، بوصفها أرضا فرنسية وليس مجرد أرض مستعمرة.. والديمقراطية في الجزائر يعني خسارة استراتيجية لهذا المستعمر القديم، لا تقارن إطلاقا بخسارته في حال قبوله بالديمقراطية في تونس.

والأمر ذاته ينطبق على باقي الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ووكلائها الصغار في منطقتنا العربية، حيث حرية الشعوب، خاصة التي تملك ثروات كبيرة، تشكل خطرا على مصالحها.

لقد نالت تونس استقلالها بأقل الأضرار، ونالت الجزائر استقلالها بملايين الشهداء..

ودخلت تونس المنتدى الديمقراطي، أيضا بأقل التكاليف سنة 2011 بعد ثورة سميت بثورة الياسمين، بينما لم يسمح للجزائر أن تدخل هذا المنتدى سنة 1992، على الرغم من أنها دفعت فاتورة ثقيلة بـ250 ألف قتيل.

وهذا يعني أن الصراع في تونس، هو صراع على كرسي الرئاسة على بلد هامشي.. وهذا أمر مسموح به.

بينما الصراع في الجزائر.. فهو قضية سيادة وبترول وهوية ولغة وراية وحضارة.. ما يعني أن الأمر أكثر تعقيدا بكثير.

وهو ما يتطلب من الجزائريين تضحيات أكبر، ونضال أطول، ووعي وإدراك أعلى.

مقالات ذات صلة