-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

“من أدخله بطنُه النارَ فأبعده الله”

سلطان بركاني
  • 1082
  • 0
“من أدخله بطنُه النارَ فأبعده الله”

من الكلمات الرّائقة التي تستحقّ أن تُنصب منارة على طريق إصلاح الأمّة، كلمةٌ عميقة يرُدّ فيها الشّيخ محمّد الغزالي -طيّب الله ثراه- على أولئك الذين فهموا الزّهد فهما قاصرا، وظنّوه تنازلا عن الحقوق وإيثارا للفقر على الغنى والجوع على الشّبع، حيث يقول الشيخ: “سيُقنعونك بأنّ الفقر ليس عيبا، وأن الله يحب الفقراء أكثر، وأنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- كان فقيرا، وأنّ القناعة كنز لا يفنى، وأنّ الزّهد فضيلة، وأنّ الطمع رذيلة، وأنّ الطّيبة هي رأسمال الفقراء، وأنّ الأغنياء هم محض مصاصي دماء.. نوع جميل من المخدّرات، ستجعلك تستمتع بفقرك، تستلذ بحاجتك، ترضى بضعفك وقلة حيلتك…”.

يتابع الشّيخ الغزالي قائلا: “لن يحدثك أحد عن عثمان وجيش العسرة، ولا عن طلحة وسخائه، ولا عن الزبير وعقاراته، ولا عن ابن عوف وتجارته، ولا عن ابن أبي وقاص وصدقاته، رضوان الله عليهم أجمعين.. لن يحدثك أحد عن استعاذة سيدنا محمد -صلوات الله وسلامه عليه- من الكفر والفقر، ولا أنّ اليد العليا خير من اليد السفلى، ولا أنّ المؤمن القوي خير عند الله من المؤمن الضّعيف.. بل سيقولون لك إنه لا بأس في أن تكون فقيرا، ضعيفا، محتاجا؛ فحينها لن تَسأل، لن تنتقل إلى مرحلة تطالب فيها بأكثر من قوت يومك، لتتساءل فيها عن الظلم، عن الانبطاح، عن الاستضعاف، فحينها ستصبح مزعجا، متطفلا، متجاوزا لمكانتك، حينها ستفكر، ستخطط، ستعمل، وربما – لا سمح الله- ستنتصر!…”.

كثيرا ما يستدلّ أولئك الذين ينظرون إلى الفقر على أنّه فضيلة، بسيرة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- الذي عاش فقيرا، وكابد الجوعَ في مراحل من مسيرته، ومات فقيرا، وينسون أنّ الله اختار لنبيّه ذلك وارتضاه له خاصّة لحكمة بالغة، في بيئة كانت تجعل المال عنوانا للسّيادة؛ حتّى لا يجدَ الطّاعنون مدخلا للطّعن في أحقية دعوته؛ فلو كان النبيّ محمّد –عليه السّلام- غنيا، لقال القائلون إنّما يتبعه النّاس طمعا في ماله.

لو كان الفقر هو الأفضل للمسلم، لرغّب النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أمّته في قلّة ذات اليد وزهّدهم من جمع الأموال، لكنّ الواقع أنّه كان يرغّب أصحابه في كسب المال ليس لغرض الكسب، إنّما للاستغناء عن النّاس وإظهار نعمة الله وشكره وخدمة دينه ومواساة عباده، وقد ثبت عنه أنّه بعث يوما إلى عمرو بن العاص يطلبه، فلمّا أتاه قال له: “يا عمرو، إني أريد أن أبعثك على جيش فيُغنمك الله، وأرغب لك رغبة من المال صالحة”، قال عمرو بن العاص: إني لم أسلم رغبة في المال، إنّما أسلمت رغبة في الإسلام فأكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “يا عمرو، نِعم المال الصّالح للمرء الصّالح”؛ فالمال في اليد الأمينة التي تبذله في الحلال وفي الإصلاح، نِعم العطية هو، بل إنّ المصطفى -صلّى الله عليه وسلّم- جعل المال الصّالح ممّا ينبغي أن يُغبط عليه الرّجل الصّالح العاقل، فقال: “لا حسد إلا على اثنتين: رجلٌ آتاه الله مالًا فهو ينفق منه آناءَ الليل وآناءَ النهار، ورجلٌ آتاه اللهُ القرآن فهو يقوم به آناءَ الليلِ وآناءَ النهار” (رواه أحمد)، ووصفه بأنّه نِعم الصّاحب ونِعم المعين للمسلم الذي ينفقه في مصارفه المشروعة، فقال: “إِنَّ هذا المالَ خضِرةٌ حلوَة، ونِعمَ صاحب المسلم هُو؛ لمن أَعطاه المسكينَ واليتيمَ وابنَ السبيل، فمن أخذه بحقّه ووضعه في حقّه فنِعم المعونةُ هُو، ومن أخذه بغير حقّه، كان كالذي يأكل ولا يشبع، ويكونُ عليه شهيدًا يوم القيامة” (صحيح الجامع).

حتّى الأحاديث التي تحضّ على الزّهد في الدّنيا ومتاعها، فهي إنّما تحذّر من تعلّق القلب بالمال حتى يملك على العبد جوانحه ويستغرق همّه وتفكيره، ويصبح جمعه غاية وهدفا، ويتحوّل من خادم إلى سيّد، ويسلّطه كاسبه على الشّهوات ويتوسّع به في الملذّات توسعا يشغله عن الدّار الباقية ويطغيه، ويحمله على قطيعة رحمه وإساءة جواره وعلى ظلم عباد الله.. أمّا إذا كسَب العبدُ المال من حلّه وأنفقه في حلّه، وآتى منه الفقراء والمساكين واليتامى، ووصل به رحمه وخدم به دينه، وجعله في يده ولم يسمح له بالولوج إلى قلبه؛ فنِعم المعين هو على صلاح الدّنيا والآخرة، ولذلك لمّا سئل الإمام أحمد رحمه الله: رجل عنده ألف درهم أ يكون زاهدا؟ قال: “إذا لم يفرح بزيادتها، ولم يحزن على نُقصانها فهو زاهد”.

في شهر رمضان نجوع طوعا، ونمسك عن المآكل والمشارب والشّهوات من طلوع الفجر إلى غروب الشّمس، لنوطّن أنفسنا على أنّ الواحد منّا يمكن أن يزهد في الدّنيا مهما تلألأت أمام ناظريه، ومهما كانت مبذولة بين يديه، ليعلّم نفسه أنّه لم يُخلق ليكون عبدا للدّينار والخميصة والمطعم والمشرب، إنّما خلق ليستعبد كلّ هذا، فيأكل ويشرب ويلبس باعتدال، ويمنع نفسه ما تهوى وتريد في الوقت الذي يريد، ويعلّم نفسه أنّ البطن ليس غاية ولا قبلة، وأنّ لا يقبل ولا يرضى أبدا أن يعصي الله ويعادي ويخاصم لأجل أن يملأ بطنه.. وفي هذا المعنى روي عن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- أنّه أكل من تمر دقل (تمر رديء)، ثم شرب عليه الماء، وضرب يده على بطنه وقال: “من أدخله بطنُه النّار فأبعده الله”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!