-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

من التحرير.. إلى التعمير والتغيير

من التحرير.. إلى التعمير والتغيير

ها هي ستُّون عامًا تمضي منذ إطلاق الزغاريد والأفراح الأولى للشعب الجزائري، تحت أهازيج “محمد مبروك عليك.. الجزائر رجْعتْ ليك”، مُعلنة نهاية حركة الاستدمار الحديث، بكسر شوكة فرنسا الغاشمة ونصيرها الحلف الأطلسي، لتكرّس قاعدة التاريخ الخالدة في أن إرادة الشعوب الحرة لا تُقهر ولا تستكين إلى الأبد، مهما طال ليلها تحت نير الاحتلال، وهل عرف الزمن المعاصر مثل إباء الجزائريين وعزّتهم في الذود الباسل عن الدين والوطن؟

خرج جيشُ الاحتلال صاغرا ذليلا صيف 1962، يجرّ أذيال الهزيمة النكراء، يتوارى من عاره الشنيع، تطارده لعنات الإنسانية المصدومة بجرائمه الفظيعة، تاركًا وراءه أرضًا محروقة، وكيانًا اجتماعيّا ممزّقًا، والأخطر منهما ذاتًا تائهة تتلمّس انتماءها الحضاري وسط الألغام الهوياتيّة التي غرسها الغزاة بمكر، على مدار 132 سنة من الاستيطان البغيض، حين راودهم الخلود على أرض البطولات في حلم استعماري عابر.

ستّة عقود تنقضي منذ تلك الصائفة التي أعادت كتابة التاريخ الإفريقي والعالم الجنوبي (الثالث)، انتقلت فيها الجزائر من ساحات الوغى ومعارك الحرية الحمراء إلى رحاب التعمير والبناء، بسواعد جيل الثورة المبارك وأبناء الاستقلال الأبرار.

واليوم يحق لكلّ الأجيال أن تفخر بملاحم الآباء الأسطوريّة وتعتز بمكاسب الدولة الوطنيّة، وما شيدته من منجزات مادية وحضاريّة على أنقاض الخراب الذي خلّفه الاستعمارُ الفرنسي، مهما كانت النقائص أو التطلعات خائبة أحيانا، لأنّ السلبيات واردة في تجارب الشعوب القاهرة، والأخطاء متوقعة في مخاضات الميلاد العسيرة، وسيكون من الجحود إنكار كل شيء إيجابي وتسويد الواقع كاملا، بداعي العثرات مهما كان وقْعُها وحتّى خطورتها في تقدير الناقدين.

على امتداد هذه البلاد الشاسعة بحجم قارّة، والتي تربط جهاتِها ومدنَها آلافُ الكيلومترات من الطرق العصرية، تنتشر في كلّ أرجائها آلافُ المدارس والجامعات والمستشفيات والإدارات والمصانع والمؤسسات العمومية والمرافق الخدميّة، وهي في ذاتها مكسبٌ حضاري مادّي كبير، مهما قيل عن أدائها ومردودها النوعي.

وبعد ما سمحت فرنسا لخمسمائة طالب جزائري فقط، إلى غاية 1962، بمزاولة دراستهم الجامعية، ها هي الجزائر اليوم تحصي 11 مليون تلميذ، وقرابة 2 مليون طالب جامعي، ومئات الآلاف من المهندسين والأطباء والدكاترة والباحثين بالداخل والخارج، ويوقّع أبناؤها من جيل الاستقلال أسماءهم بأحرف من ذهب على سجلّ المخترعين وعلماء البشريّة اللوامع، وكل ذلك من ثمرات الدولة الاستقلالية وبُناتها، كيفما كانت الانتقادات الجانبيّة.

إنّ الجزائر اليوم دولة كبيرة إقليميّا وعربيّا وإفريقيّا ومتوسطيّا، بل رائدة في مستويات كثيرة ولا فخر، بتاريخها وحاضرها وشعبها وكل مقومات الطبيعة التي حباها الله بها، وبإرادتها المتجددة في أن تتبوأ المكانة التي تليق بها بين الأمم، وهي تملك كل عوامل النهضة والتقدّم الطبيعية والبشرية، المادية والمعنوية، إذا أحسنت الاستثمار في عناصر قوتها.

بعد حَراك 22 فبراير 2022 دخلت الجزائر عهدها الجديد نحو صناعة التغيير الجماعي، بتحرّر الطموح الشعبي وتدشين القطيعة مع ممارسات بائدة، نخرت قوى الأمّة طيلة عقود من العبث بالدولة واستغلال السلطة العامة بصورة فاحشة لخدمة الأفراد والعُصب الموالية لها على حساب المجتمع، ما جعلها رهينة الابتزاز الخارجي.

هل تحقّق كل شيء من مطالب الجزائريين وأحلامهم؟ سؤالٌ يفرض نفسه في مثل هذه المحطات، والجواب قطعا: لا، لكن الكثير منها يجد طريقه تدريجيّا نحو التنفيذ، كما أنّ بوادر التهيؤ لمرحلة مختلفة تتجسد يوميّا في الميدان.

الجزائر اليوم تشق طريقها، ولو ببطء، في رسم معالم اقتصاد عصري متنوِّع ومتوازن، للتحرر من قبضة الريع النفطي، عن طريق إرساء دعائم صناعة حقيقية منتجة للثروة والشغل، تقدِّم القيمة المضافة للاقتصاد الوطني.

وموازاة مع ذلك، تخوض بلادنا حربها القضائية بلا هوادة، مسنودة بإرادة سياسية بارزة، لاجتثاث الفساد المالي وتطهير الإدارة العمومية من الممارسات البيروقراطية التي كبلت المبادرات الفردية والمؤسساتيّة، كما تُشهر سيف القانون والانضباط، دون محاباة، في وجه كل التصرفات المسيئة للخدمة العامّة، ناهيك عن أن تكون منتهكة لها.

إنّ اختيار القيادة العليا لموقع جامع الجزائر والاستعراض العسكري غير المسبوق لإحياء ستينية استرجاع السيادة الوطنية يحمل رمزية لافتة، تبعث برسائلها القويّة إلى الداخل والخارج، لتعبئة كل القوى الجزائرية في إطار مبادرة لمّ الشمل الوطني، ضمن الاستعداد لمواجهة التحديات الداخلية والرهانات الإقليمية.

لقد كان المكان ذاته مسرحا شاهدا على مشروع التنصير الفرنسي الذي حمله الكاردينال لافيجري لتثبيت التبعية للاستعمار، واليوم تأتي الرمزية معاكسة تمامًا، الارتباط بجذور الانتماء الإسلامي للعبور نحو المستقبل بعنوان الأصالة الإبداعيّة المتجدّدة.

أمّا استعراض القوّة، فهو البيان على إدراك رهانات النظام الدولي الذي لا مكان فيه للضعفاء، لذلك رفعت الجزائر رأسها عاليًا، قولاً وفعلاً، واقفة الندّ للندّ، ضدّ كل من تسوّل له نفسه التطاول عليها أو المساس بمصالحها الإستراتيجية، وشعارها سيادة القرار الوطني والدولي، ولا علاقات من دون احترام متبادل وشراكة لصالح الجميع.

صحيحٌ أنّ القوة مفهومٌ شامل ومتكامل الأبعاد، وهو ما تسعى الجزائر اليوم إلى تحصيله عبر التغيير وتصويب الأخطاء والاستثمار في مواردها البشرية، ويبقى شرط الانتقال الآمن هو النجاح في “لمّ الشمل” والاستجابة الصادقة لإرادة رصّ الصفوف، لتجنيد كل القوى المجتمعية الحية خلف الهدف المشترك.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!