الرأي

من الذي يحكم في الولايات المتحدة؟!

صالح عوض
  • 7011
  • 10

إنه مما يثير الحزن والأسى أن يبذل سياسيو العرب كل جهدهم لكسب عطف وود هذا الرئيس أو ذاك من رؤساء الولايات المتحدة في حين لا يجد هذا الرئيس الأمريكي من الاحترام والهيبة عند أعضاء الكونغرس أو في الولايات المتحدة ما يجده في التعامل مع الحكام العرب والمسلمين، ظنا منهم بأن له من السلطة على بلده ما لأحدهم في بلده. وأحيانا كثيرة تأخذ النخوة بعض هؤلاء السياسيين فيقدمون الهدايا السخية بلا أي هدف، على سبيل المثال ما ذكره “نيكسون” الرئيس الأمريكي الأسبق عندما تحدث عن كيفية حله لمشكلة العجز في ميزانية بلدية نيويورك والبالغ أربعمئة مليون دولار..

بحث نيكسون عن طريقة للحل كي يكسب بذلك وقوف أصحاب المال في نيويورك معه في الحملة الانتخابية فاهتدى إلى أن يتصل بصديقه! أمير عربي ويطرح عليه احتياجه لمساعدة لحل المشكلة دون أن يذكر أرقاما فيهب الأمير وفورا بأن يبلغ الرئيس أن ملياري دولار سيكونان على حساب الرئيس الأمريكي حالا.. سعد “نيكسون” من هذا السخاء فقال للأمير: اطلب مني أي خدمة يا سعادة الأمير.. فأخذت الأمير العزة!! فقال: أبدا أبدا.. يعلق نيكسون على الحادثة فيقول: “أقسم أنه لو طلب مني أن أعمل على إعادة فلسطين للعرب لعملت”، كما جاء في مذكراته المنشورة، رحل نيكسون مثلما يرحل أي رئيس أمريكي ليصبح مواطنا عاديا، بالتأكيد ليس من الدرجة الأولى.. ثم يأتي رئيس آخر ويبدأ سياسيو العرب حجّهم إلى البيت الأبيض مرسلين برسلهم مؤكدين حسن النيات والثقة في العم سام، ويذهب هذا الرئيس ويأتي آخر وهكذا!! والقصة تتكرر منها ما نعرف، وكما فعل القذافي مع ساركوزي ورئيس وزراء إيطاليا ومنها من لا نعرف.

من المفيد قبل المواصلة في الحديث عن عجز الأداء العربي سياسيا، أو بمعنى أصح غيابه على المستوى الدولي، التعرف على جانب آخر في خريطة مراكز القوى في الطبقة السياسية الأمريكية كي نخرج من التعميم ولغة الخطاب.

بالإضافة للهزات الاقتصادية التي أصبحت سمة المرحلة الحاضرة بالنسبة للاقتصاد الأمريكي الذي يتعرض إلى موجة من الكساد وفقدان القدرة على التحكم، بالإضافة إلى ذلك فإن موضعة المصانع وإنشاء الحدود القومية أمام تدفق رأس المال ومرافق الخدمات جعل الحكومات المتوالية سواء يسار الوسط أو يمين الوسط تجد نفسها في ورطة ومتعذر عليها إيجاد سياسة اقتصادية توفر مخدة واقية من هزات التحولات الاقتصادية.

وحتى لو كانت هذه السياسات صحيحة فإنه على رأي الواشنطن بوست فإن الحملة الانتخابية ستحل قبل أن تثبت الحكومة أنها تسير على خط صحيح.. هذه مشكلة حقيقية تجعل من سلطان الرئيس أقل تأثيرا.. وهكذا فقد عملت شروط ضعف مؤسسات الحكم الثلاث: الأحزاب، الكونغرس، والرئاسة على تدمير قدرة النظام على تطوير سياسة متناسقة والحفاظ عليها وغذى هذا الضعف نسقان في مراكز القوى: جماعات المصالح، والصحافة. ليصل الحد كما صرح السيناتور الأمريكي (بيل بروك) وزير التجارة الخارجية في عهد (ريڤان) “ان البلدان الديمقراطية في أنحاد العالم ضعيفة هذه الأيام”.

في الولايات المتحدة ليس هناك حزبان سياسيان بل هناك 536 حزب، مئة منهم أعضاء مجلس الشيوخ، و435 هم أعضاء مجلس النواب ثم الرئيس، وكل من هؤلاء هو حزب سياسي لوحده، كل منهم نال الوظيفة التي رغب فيها وجمع الأموال اللازمة لحملته الانتخابية واستأجر هيئات استطلاع آراء الناخبين وخاض الحملة كما لو أنها الوظيفة الوحيدة على جدول الاقتراع.

وهكذا وجد كلينتون شأن الرؤساء السابقين أن التعامل مع أعضاء الكونغرس أصعب في الغالب من المفاوضات مع رؤساء الدول ذات السيادة.

فمثلا نجد الرئيس نفسه يحاول عقد صفقات مع أشخاص يتصرفون بشكل ذاتي صارم مثلما فعل مع المليونير (هيربرت كول) وهو سيناتور ديمقراطي من ولاية “ويسكونسون” وقام بنفسه بالإنفاق على حملته، وكان قد أبلغ الرئيس أن سقف زيادة الضريبة على الغاز 4.3 سنت بالتحديد واضطر كلينتون لأن يقبل ذلك لأن السيناتور يمتلك سيطرة على آلية التصويت لمجلس الشيوخ.

وعلى مستوى آخر، فهناك عوامل عديدة لإضعاف الرئاسة الأمريكية.. فمثلا ينظر بملاحظة شديدة إلى أن هذا الرئيس كافح من أجل تدبير أمور موظفي البيت الأبيض في حين يصاب بالخيبة وهو يحاول تعيين (بوبي اينمان) مما يثير الشكوك حول كيفية إدارة الرئيس..

وهذه مسألة مجذرة في الوجدان الأمريكي نبدأ من (ليندون جونسون) في حرب الفيتنام و(كارتر) في إيران حتى (جورج بوش) في فضيحة إيران كونترا.. وكلينتون الجديد ومبرراته للتخلف عن الخدمة العسكرية بشأن قضية (واتووتر) ومأساته في الصومال.. وظهوره بشكل مرتبك شخصيا وسياسيا أمام تحديات الهجوم الاقتصادي الياباني.. كل هذا يدفعه إلى الأسفل لا سيما وهو طرح شعارات ضخمة عن التعليم والرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية، وكذلك ورطه بوش الابن في الحرب اللهيبة في أفغانستان والعراق وأثر ذلك على الاقتصاد الأمريكي وصولا إلى ما يشبه الكساد العظيم مع بدايات عهد أوباما.

السؤال الآن ما هو وضع الكونغرس؟ في الشهر الماضي كشف استفتاء عام أجرته شبكة تلفزيون (ان.بي.سي N.b.C) و(ول ستريت جورنال) أن ثلاثة من عشر عبروا عن موافقتهم على التشريعات الوطنية في الولايات المتحدة، والملاحظ في أعضاء الكونغرس هو التقاعد بالجملة، ففي عام 1992 تقاعد أكثر من 60 عضوا والعديد من المتقاعدين من صغار السن نسبيا.. أما أولئك الذين يقفون وراء النواب فالمزاج الشعبي يغذي موجات مشحونة بالقلق لديهم.. إن هؤلاء أعضاء أضخم طبقة من (الفريشمن) يواجهون في غضون نصف القرن الأخير، وبرعب احتمال أن تقترن أسماؤهم بصفة (صاحب منصب) وهم يقيسون كل صوت هبوطا أو صعودا باحثين عن ضمان ثابت ودائم بأن لا يتجاوزهم معارض في آخر ربع ساعة، وأن لا تروج ضدهم أي زلة.

وهكذا يتضح أن الكونغرس يتحرك في معظمه كعرائس أرجوز بفعل قوى (الفريشمن) ذات المصالح الهائلة.. ولو كانت قضية الحرب على العراق ورفض الكونغرس في البداية تأييد الرئيس الأمريكي الذي كان مدفوعا بمصالحه الشخصية ومصالح قوى اقتصادية تقف خلفه.. ثم وافق الكونغرس في نهاية الأمر بعد أن أصبح واضحا له ضمانات الانتصار بتحييد العرب وعدم ردة فعلهم، بل وإشراكهم في الحرب على العراق وتجييش ثلاثين جيشا من جيوش العالم هنا اتضح حجم المكتسبات المالية الهائلة التي ستنشأ عن السيطرة على منابع النفط.

إن أصحاب المصالح هؤلاء يزيدون في دفع الولايات المتحدة نحو تحقيق مزيد من الانتصارات للسيطرة على مواطن الربح سواء كان ذلك بالحرب أو السياسة.

فما كان للكونغرس أن يقتنع بالحرب ضد العراق لو أنه أحس بإمكانية مواجهته مع المنطقة العربية والعالم الإسلامي مواجهة حقيقية، وما كان للحصار أن يستمر لو أن البواخر الأمريكية الشاحنة نفطا أو الجالبة أدوات أو الراسية أو المارة توقف عنها تقديم المساعدة من قبل الموانىء العربية.

إن إدراك سياسيي وطننا العربي لأهمية العمل على هذه الأرضية يجعلهم يتعاملون مع الأشياء بواقعية تجنبهم مضيعة الوقت والضحك على لحاهم فيصبحون غير حريصين تماما على التودد لهذا الرئيس، أو إنما يصبحون قادرين على إقناع أصحاب المصالح أن ربحا متبادلا مهما سيحصل أن اتخذت الإدارة الأمريكية الموقف الفولاني وستكون الخسارة أن حدث العكس، هذا لا يعني إعلان حرب على الولايات المتحدة إنما يعني البحث عن شكل من التعامل المتكافئ، بمعنى آخر يجب أن يتحول مالنا نحن العرب إلى سلاح استراتيجي بأيدينا كما يصبح سوقنا أحد أسلحتنا. وليس العكس. بالسيطرة عليه والتحكم في معادلة الانفتاح بما لا يضر مؤسساتنا ومشروعنا النهضوي.

إن الصراع في كل المناطق عبر العالم اليوم أنشأته طبقة كبار أصحاب المصالح وهؤلاء لا دين لهم ولا إيديولوجيا سوى المال وهم يوظفون الدين والإيديولوجيا لمصالحهم.. وموضوع جنوب إفريقيا الذي لقي دعما غربيا عنصريا للأقلية البيضاء عقودا من الزمن ضد الأفارقة أهل البلاد الأصليين عندما كان (الذهب) مرجعية العملات العالمية.. وعندما انتقلت المرجعية من الذهب إلى العملات المهيمنة سمح الغرب بإجراءات الديمقراطية والمساواة في جنوب إفريقيا..

وحرب الفيتنام والمصالح الكبرى الأمريكية ورفع الحظر عنها اليوم في محاولة لتخفيف وطأة أزمة الاقتصاد الأمريكي حيث يساعدها في تشغيل عجلتها الاقتصادية، وهذا هو التوجه نفسه الذي يسيطر على السياسة الأمريكية تجاه الدول الاشتراكية القديمة.

هذه الحقيقة لا بد من تدبرها لكي ندرك أن الذي يحكم في الولايات المتحدة ليس هو الرئيس ولا الأحزاب ولا الكونغرس مجردين.. إنما هم (الفريشمن) أصحاب المصالح..

مقالات ذات صلة