-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

من شواطئ جيجل أبكي شواطئ غزة

من شواطئ جيجل أبكي شواطئ غزة

كغيري من الجزائريين الذين اغتنموا فرصة تخفيف إجراءات الحجر الصحي على الولايات الساحلية أواخر شهر أوت ومطالع شهر سبتمبر، لقضاء أيام تسلية ومرح وعطالة وسباحة واسترخاء.. ومعاكسة لرتابة ونسقية وتكرار روتين الأيام العادية القاتل الماحق لكل إبداع.. حملتُ أمتعتي وكل لوازم البحر والصيف واتجهت فجرا بالسيارة أتهادى جذلان طربا نحو جوهرة الساحل الجزائري مدينة جيجل الساحرة، النائمة على أحضان وصدر سفوح جبال الأطلس الشماء المكسوة بضبابها الناعم.. وأمواج البحر الزرقاء الحانية عليها من جهة الشمال.

هذه المدينة المتسمة وأهلها بالحرمة والأدب والأخلاق والمحافظة.. مدينة تجمع بين جنباتها الأصالة والمعاصرة والحشمة والحياء والأمن والأمان والطمأنينة والسكينة.. زيادة على ما جمعتْ من خصال البر والبحر والسهل والجبل والمنحدر والوعر والخضرة والماء والوجه الحسن.. وما أوعبتْ من طيب وهدوء وصفاء وطلاقة وجوه أهلها.. فهي مدينة تسحرك بجمال وروعة وأخلاق وقيم الإنسان الجزائري البسيط والبشوش والتلقائي المتسامح.. قبل أن تبهرك بمناظرها المتنوعة وطبيعتها الخلابة.. هذا الإنسان الذي يُضفي عليك متعة لا مثيل لها، قلما تجدها في بعض المدن الساحلية الأخرى.

وما إن تكتري شقة مناسبة وتضع متاعك فيها حتى تهب مسرعا نحو شاطئ المنار العائلي الخلاب.. وتكتري طاولة وشمسية، وتجلس تنظر إلى زرقة البحر كغيرك من الزوار والمصطافين..

جلستُ أرنو –كغيري من المصطافين- الأفق البعيد والخيالات الجميلة والقاتلة تجتاح مقاتل قلبي الرهيف، وتغتالني ألف مرة مع حركات الموج القادمة من بعيد والتي لا ينقطع خريرها ولا هديرها..  والذكريات تطوح برأسي من على الأريكية المصنوعة من سعف البلاستيك الصناعي.. وإذا بي فجأة ألمح زورقا رماديا يلوح من أعالي البحار فظللت أرقبه وأشاهده بحذرٍوخوفٍ.. وساعتها قفز أمام ناظري حلمٌ غريب ومشهد حنين فتذكرت شواطئ غزة الأسيرة الباكية.. ومعها تداعت على ناظري كل شواطئ فلسطين السليبة من رأس الناقورة شمالا إلى رفح وخان يونس جنوبا.. شواطئ فلسطين العزيزة الطاهرة.. التي دنَّسها اليهود الأراذل.. تلك الشواطئ التي كانت تحدِّثني عنها والدتي (فتحية محمد حامد حسن 1935- حية 2021م ومقيمة بتبسة) وزوجة خال والدتي المرحومة الست الوقورة والطيبة (خيرية محمد زيدان) أصيلة مدينة عكا، عن زوجها وخال أمي ذاك الفدائي المقاوم الشرس.. بل زعيم المقاومة في مدينة طبرية سنة 1948م (حسن يونس ت 1972م) المعروف في الأدبيات التاريخية للمقاومة الفلسطينية بـ(حسن شلبك)..

ولما كنت طفلا صغيرا في دمشق الشام التي نزحوا إليها مكرهين خائفين -بعد أن طردهم اليهود الغاصبون من بلدتهم طبرية شهر أفريل 1948م- أسمع القصص والحكايات والمواقف والأحداث والبطولات والأهازيج والأغاني الفلسطينية الجمعية (العتابا والميجنا) التي كانوا ينشدونها وهم يتذكرون ماضيهم الجميل في وطنهم السليب.. وحاضرهم التعيس في بلاد المهجر.. كنت أشاهد وأصغي بولهٍ واهتمام لكل تلك الحكايات التي تصف موانئ وشواطئ حيفا ويافا وعكا وتل الربيع وعسقلان وغزة..

تذكرت شواطئ فلسطين يا عرب الخيانة من المخزون الثقافي العريق الذي كانت ترويه لي جدتي وجدي رحمهما الله تعالى ووالدتي التي نزحت عن فلسطين سنة 1948م وعمرها ثلاث عشرة سنة رفقة عائلتها الكبيرة، ولم تر بلدتها التي وُلدت فيها إلى اليوم.. وتذكرت أيضا حرمان اليهود لأهلنا وإخواننا في الدين والعقيدة والعروبة والانتماء في فلسطين عموما وفي غزة خصوصا من التمتع بشواطئهم كما نتمتع نحن الجزائريين اليوم بشواطئنا الجميلة سباحة وسياحة وتسلية وترويحا وغنيمة وغذاء وثروة.

وفي بحر هذا الطوفان الوجداني الصوفي الذي أنساني نفسي بدأتْ تتلاعبْ بي الخيالات والذكريات الطفولية وغيرها وتأخذني يمنة ويسرة مستحضرة أمامي كل مشاهد عنتريات العدو الصهيوني وعدوانياته وغطرسته البربرية على أهلنا وإخواننا في فلسطين المحتلة، وتفكرت في شعور وأمنيات تلك الأسرة الفلسطينية الغزاوية التي فكرت ذات يوم منذ سنوات أن تنزل شاطئ غزة وتسبح يوما في شواطئ فلسطين السليبة، فما كان من سفن العدو الصهيوني الحربية الرابضة على سواحل غزة المحاصرة، إلاّ أن تستعرض غطرستها وجبروتها على عرب الخيانة والذل.. فأمطرت تلك الأسرة بوابل من نيران مدافعها الرشاشة مُردية تلك الأسرة بكاملها في عداد الشهداء إلى ربهم، وتاركة طفلة واحدة من تلك الأسرة التي تحولت في دقيقتين إلى ضحية مكلومة في الحياة جراء فقدان كامل أسرتها.. وقد تناقلت وسائل الإعلام العربية والعالمية يومها تلك الحادثة المأسوية دون أن يتحرك في الأمة أحدٌ لنصرتها.

واكتفى يومها ومازال وسيبقى المجتمع الدولي المتآمر على قضايا العرب والمسلمين سوى بالشجب والإدانة وإبداء الأسف وطلب الطرفين التحلي بالحكمة والحوار والمفاوضات.. وتسوية الجلاد الجبار المتكبر بالضحية الأعزل.. التي لا تسمن ولا تغني من جوع عن رفع الذل والمهانة التي طوحت بالعرب والمسلمين وزعمائهم الفاشلين.. لأنه:

تعوي الذئاب على من لا كلاب له *** وتتقي صولة المستأسد الضاري.

تذكرت وأنا جالس على شواطئ جيجل أرنو إلى الأفق البعيد الحرمانَ الذي يعانيه إخواننا الفلسطينيون من التمتع بشواطئهم سباحة وصيدا وثروات نفطية وغازية، وتذكرت خيانة المجتمع الدولي الذي قسّم بلاد العرب والمسلمين بعد سقوط الدولة العثمانية وحملاته الاستعمارية البغيضة التي جعلته يُفسد كل شيء في العالم، فقد فكك دولا كانت تتربع على مساحات شاسعة، ووضع حدودا وهمية ومصطنعة مزق بها مجتمعات وأمما موحدة، وحطم شعوبا بأكملها، ومحا شعوبا أخرى من الوجود كالهنود الحمر والأزتيك.. واستعبد سكان القارة الإفريقية واتخذهم عبيدا لخدمته وحروبه وأضاليله وباطله.. وأذل العرب والمسلمين وفككهم وفتت جمعهم وضرب وحدتهم.

تذكرت إخواني الأسرى الفلسطينيين الذين منهم من قضى أكثر من ثلاثين سنة وهو ما يزال إلى حد كتابة هذه السطور قابعا في سجون القهر الصهيونية.. تذكرت أخواتي الأسيرات الفلسطينيات العفيفات القابعات في سجون الاحتلال.. تذكرت الأطفال المسجونين والمعتقلين الذين تجاوز عددهم المئات.. تذكرت الشهداء المرحومين.. والجرحى والزمنى والمعطوبين والمعوقين واليتامى والأيامى والفقراء والمحتاجين.. تذكرت غدر عرب الخيانة وطعنهم قضية فلسطين وشعبها المجاهد.. تذكرت كيف هرول بعض الزعماء العرب نحو تقبيل الأرض تحت أقدام عرّابي صفقة العار القرني وخطة أبراهام (نتانياهو وترامب)، اللذين كرههما شعباهما فانتقما منهما في الانتخابات الأخيرة.

تذكرت دعاة وفقهاء وخطباء وكتّاب وأدباء وأبواق ومثقفي وفناني وإعلاميي وعرّابي الخيانة والعار.. تذكرت دعواتهم الكاذبة للتعايش الإنساني المشترَك المزعوم على أشلاء شعب مقهور.. ووطن ممزق.. وحاضر هزيل.. ومستقبل يكونون فيه عبيدا طيِّعين وخدمةٍ هينين لليهود والنصارى..  تذكرت كيف أنهم لم يعوا درس طالبان والشعب الأفغاني الشجاع الذي عجزت الامبراطوريات الاستعمارية الجبارة عن دحره وتمزيقه، فاندحر أمامه عتاة المستعمرين الإنجليز الذين لا تغيب عن مستعمراتهم الشمس.. كما اندحر أمامه الدبُّ الروسي ممثلا في الاتحاد السوفياتي الذي تداعى ليتقزم إلى روسيا الاتحادية.. واليوم اندحرت امبراطورية الشر الأمريكية التي عجزت عن قهر عقيدة الإسلام والإيمان بالله.. فخرجت ذليلة صاغرة ولن تقوم لها قائمة بعد اليوم.

تذكرت عرب الخيانة والذل والركوع أمام الكيان الصهيوني الآفل.. مستغربا كيف لم يفكروا في حالهم القاتم، وفي غدهم الأسود، وقد اقترب موعد تخلي أمريكا عن حليفها المدلل إسرائيل.. وستتخلى عنها يوما ما لا محالة.. هكذا أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وحلفائهم الذين تخلوا عنهم في أحرج الأوقات.. لأن السياسة عندهم مصالح ومنافع وتحالفات وتناقضات.. فعدو اليوم صديق الغد.. وهكذا.. وما تذكرته خلال هذا الأسبوع الصيفي الكثير والكثير.. ولكن طغى على قلبي خذلان عرب الخيانة لإخوانهم الفلسطينيين.

وأخيرا.. ألا فلتعلموا أن أعلى وأعظم الممالك ما يُبنى على القوة بمختلف ميادينها ومجالاتها.. وقديما قال المتنبي مادحا نصر سيف الدولة الحمداني على الروم البيزنطيين:

أعلى الممالك ما يُبنى على الأسل *** والطعن عند محبهن كالقُبَلِ.

أللهم اشهد أني بلغت.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • شجرة الدر

    ما أروع ما وصفت به مدينة جيجل الساحرة! كلماتك و وصفك كان كالسحر … طيرني إلى عين المكان و للحظة شعرت أنني هناك تدوس قدماي الحافيتين رمال شواطيء جيجل الدافئه كدفئ حنيني إلى بلدي الذي حرمت من دخوله كباقي المغتربين و المغتربات الذي يموتون شوقا لأرض الوطن و لكن….. أما فلسطين فلها رب حاضر ناظر و حتما سيظل يحميها حتى ينصرها…