-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

من عطّل “قرار” الوزيرة فرعون بتعريب البريد؟

من عطّل “قرار” الوزيرة فرعون بتعريب البريد؟

إن أهم ما ينبغي أن ينطلق منه اهتمام الدولة في مجال مراجعة الوضع اللغوي وتصحيحه هو الشروع الفعلي في تطبيق قانون تعميم استعمال اللغة العربية الذي صدر في بداية التسعينيات ولكنه بقى مجمدا ومبعدا عن الحياة العملية، فالإفراج عن هذا القانون وإخراجه إلى الوجود، وفرض العمل به هو الإجراء الذي ينبغي أن تتبناه الدولة، باعتباره جزءا من كيانها ورمزا من رموز وجودها وسيادتها، لأنه لا يجوز أن تصدر الدولة قانونا، ثم تتخلى عنه ولا تدرجه ضمن أساليب عملها اليومي. إن هذه السياسية التي تنتهجها بلادنا في مجال تنظيم التعامل مع اللغة عموما، ومع اللغة العربية خصوصا سياسة شاذة وغريبة عن مجتمعنا ومنافية لتفكير الأمة، ومناقضة لقيمها ومبادئها.

والسبب الذي جعل البلاد تسلك هذا المسلك الشاذ هو التقدير الذي تحظى به اللغة الفرنسية من قبل المسؤولين والمكانة التي تعطى لها في نظام حياتنا.

فهذه المكانة هي التي جعلتها تستولي على كل المجالات، ومكنتها من أن تحتل مكانا لاحق لها فيه، وتغتصب منزلة ليست لها، وبهذه المنزلة زاحمت اللغة العربية وأبعدتها عن أهم الوظائف التي هي من خصوصياتها، وهمشتها، ونخشى أن يستمر هذا التهميش. وهذا هو أساس الإشكال الذي ظل يلاحقها والذي طال أمده. والتعامل مع اللغة العربية اليوم تعامل غير سليم، لأنه لا ينسجم مع ما تفكر فيه الأمة، ولا يستجيب لتطلعاتها، ولانتظارات المواطنين الذين ظلوا ينتظرون أن تعالج الدولة هذا الخلل. كان المواطنون ينتظرون أن تعالج الدولة الموضوع، وتستجيب لما ظلوا يطالبون به وهو إعطاء اللغة العربية الدور الذي يجب أن تقوم به. كما كانوا ينتظرون أن تقف الدولة – وهي تحتفل بالذكرى الخامسة والخمسين لاستعادة السيادة – تقف موقفا يتناسب مع هذه الذكرى ومع أهمية الموضوع وتجعل من الاحتفال سبيلا لمعالجة الموضوع.

وكان المطلوب أن يعالج الأمر من أساسه ويكون العلاج جزءا من هذا الاحتفال، وكان من اللائق أن يستعرض القائمون على شؤون الدولة بهذه المناسبة  ما حققته البلاد من مكاسب خلال نصف قرن، وما لم يتحقق في المجال اللغوي والفكري والثقافي، وهو الجانب الذي يجب أن تهتم به الدولة.

كان المطلوب أن يبادر المسؤولون باتخاذ إجراءات ومواقف عملية لتصحيح الوضع القائم وتحدد وجهة السياسة الجديدة التي يجب أن تراعى في التعامل مع قضايا لها صلة بالسيادة وبما تريده الأمة. كان أمل المواطنين أن يهتم جل الوزراء بهذا الموضوع ويدرجوه ضمن قضايا الساعة وتصدر نتيجة ذلك قرارات نافذة بشأن تغيير أساليب التعامل مع اللغة بصفة عامة ومع اللغة العربية بصفة خاصة ويركز في مجال العلاج على مناقشة الظروف التي تجر إلى تهميش اللغة العربية وعزلها عن ممارسة أهم وظائفها.

كان الناس ينتظرون أن يتحرك البرلمان ويحرك الحكومة، ويدعوها لمراجعة مواقفها في المجال اللغوي ويستجيب للآراء المطالبة بعملية التصحيح، وأهم ما ينبغي أن يتجه المسعى إليه هو الاهتمام بمعالجة الخلل الذي ظل يعوق بلادنا عن اتباع ما يحقق لها كامل سيادتها ويخلصها من التبعية التي تبقي المجتمع تابعا لغيره مقلدا له، سائرا في أثره ووفق إرادته كأنه ظل له.. وهذا الوضع هو خلاصة ما ينتج عن التبعية التي مانزال نقاومها لتخلص البلاد من آثارها، وهذا هو الأمل الذي رسمنا مخططا نظريا سياسيا وإداريا لتحقيقه منذ أن شرعنا في تسيير أمور بلادنا وهو المخطط الذي ضبطنا أهدافه ورسمناها ضمن توصيات الندوة الوطنية الأولى للتعريب سنة 1975. ولكن المواقف المترددة التي ظل المسؤولون يقفونها في مجال التخلص من الهيمنة الثقافية جعلتهم يتمسكون باللغة الفرنسية وينبهرون بها ويعتمدونها أداة عمل في كل جوانب حياتنا وهذا هو الذي جعلهم لا يكملون الخطة التي بدأناها منذ السنوات الأولى للاستقلال ورسمناها ضمن أعمال الندوة الوطنية للتعريب في السبعينيات، وقد أكملنا جوانب الخطة الهادفة إلى التصحيح بإصدار قانون تعميم استعمال اللغة العربية في بداية التسعينات، ولكننا مع الأسف أبقيناه مبعدا عن الحياة العامة. هذا هو السبب الذي أبقى الوضع اللغوي الشاذ الذي ما يزال جانب منه قائما. ذلك الوضع الذي يسيء إلينا ويقلل من قيمة وجودنا الثقافي، ويعزز حالات التسيب والتبعية مما يجعل المواطنين يشعرون بأنهم لم يتخلصوا من هيمنة الأجنبي في المجال الفكري واللغوي ومن مخلفات ظروف الاحتلال، وبأن استقلالنا ما يزال منقوصا، لأن الاستقلال السياسي بدون استقلال ثقافي هيكل بلا روح. هذا هو الأمل الذي لم يتوقف النضال من أجله، وما يزال يعيش معنا لم يفارقنا ولم يتوقف شعورنا نحوه، وقد بدأنا في الأيام الأخيرة نحس بوجود اهتمام وطن يبشر بوجود إرادة مخلصة تتحرك في الاتجاه الذي يحي هذا الأمل ويعزز كل جهد يقف إلى جانبه. إن الإحساس بوجود اهتمام وطني يحرك الجهود التي تسعى لتصحيح وضع اللغة العربية يؤكده الخبر الذي سمعناه والذي شنته وسائل الإعلام والمتعلق بموقف وزيرة البريد والاتصالات تجاه اللغة العربية والتي أعلنت عنه في بعض جلساتها بخصوص الإجراء الخاص بمعالجة وضع اللغة العربية في مصالح البريد، من خلال القرار الذي ننوي اتخاذه بشأن احترام اللغة العربية في الوثائق الإدراية الجاري بها العمل وفي المعاملات التي تتم بين المصالح وجمهور المواطنين. إن مثل هذا الموقف ينبغي أن يقتدي به كل الوزراء في الحكومة وخاصة وزراء العمل والصحة والنقل والتجارة والسياحة والداخلية، لأن العمل الذي ينجز في هذه القطاعات موجه إلى المواطنين أو موجه لغيرهم ولكن باسم الدولة، هذا هو الخبر الذي سمعناه واستبشرنا به خيرا، لأنه صادر عن جهة تمثل وجها من أوجه الحكومة وتنطق باسم هيئة رسمية من هيئات الحكومة. ونظرا لأهمية الخبر أشاد به الكتاب وأشادوا بموقف الوزيرة وبتفكيرها الدال على وجود روح وطنية مخلصة.

وحين سمعنا الخبر ذهبنا نتتبع آثاره ونتأكد من حقيقته فلم نجد لفكرة الوزيرة أثرا بينا في مصالح البريد، فالوثائق التي يجري بها العمل هي لم تتغير، والمعاملات هي الأخرى لم تتغير، فلم نعثر على مصلحة تنجز أعمالنا بالعربية، فتأكد لدينا أن الوضع ما يزال غامضا فهو بحاجة إلى موقف رسمي من السلطة العليا يعالج الموضوع معالجة سياسية وإدارية، ويوضع الاتجاه، ولكن الواقع الذي درج فيه هذا الخبر فعليا نتساءل، هل صدر الموقف فعلا من الوزيرة؟ وهل عبرت فيه عن نيتها بتعريب الوثائق، وتصحيح أوضاع اللغة العربية في مجالات التعامل؟ وهل طالبت المصالح باحترام اللغة العربية في المعاملات بينها وبين الجمهور؟ هل هذا الخبر حقيقة، أم هو مجرد رغبة صادرة عن إرادة معزولة طرحتها الوزيرة في سياق النقاش؟

هل صرحت الوزيرة فعلا بهذا الموقف؟ وهل كانت الفكرة واضحة في طرحها، وهل كانت عازمة على التنفيذ؟ ولكن لماذا لم يستمر الاهتمام بالفكرة؟ هل وجه إلها أمر من جهات عليا يطلب منها التريث في اتخاذ القرار؟ لأن الموضوع يتطلب جملة من الاحتياطات أو لعل هناك من المسؤولين من طلب عدم التسرع في اتخاذ مثل هذا الموقف قبل أن يكون للدولة رأي في الموضوع. ومهما يكن فإننا نطالب المسؤولين في الدولة أن يراجعوا الأوضاع المتعلقة بالمسألة اللغوية في عمومها، وأن يستمعوا إلى ما يفرضه المنطق، وأن يجعلوا من مثل هذه المواقف وجهة عمل، وخطة تفكير، ومنهج حياة، وأن يحرصوا كل الحرص على مسايرة مطالب المجتمع والسير به نحو التحرر من كل أوضاع التخلف ومن كل أشكال التبعية الثقافية. فالتبعية اللغوية عندنا لم تعد ثقافة إنسانية تغنى بها ثقافاتنا، كما يراها البعض إنما أصبحت خيارا سياسيا وثقافيا تتخذه، واتجاها حضاريا نشجعه ونسير عليه، ويستخلص هذا مما هو واقع عندنا، ومن حرص المسؤولين على التمسك باللغة الفرنسية والتواصل بها. والحقيقة التي ينبغي أن يعيها الناس هي أن التبعية اللغوية لا تعني إقبال المجتمع على تعلم لغة أجنبية كخبرة معرفية يضيفها إلى رصيده المعرفي في المجال الثقافي، كما لا تعني أنها تعبير عن حاجات الإنسان إلى استخدام لغة من اللغات حين يتطلب الأمر ذلك، لأن هذا مطلوب ومرغوب ومفيد، إنما تعني التبعية أن يصبح المجتمع تابعا لغيره، وتصبح لغة التابع لا تساوي شيئا بالنسبة إلى لغة المشرع، ومن ثم يدفعه ارتباطه بهذه اللغة وانبهاره بها إلى التخلي عن لغته جزئيا أو كليا، والتعلق بلغة غيره واعتبارها جزءا من شخصيته وأداة من أدوات التعبير عن هذه الشخصية، وقد تصبح في بعض الأحيان رمزا من رموز سيادته حين يتبناها في الاجتماعات الرسمية داخل الوطن، وحين يرشحها لتكون لغة نقل المعرفة العلمية وأداة الخطب الرسمية ووسيلة التسيير الإداري.

 

فالمجتمع المكرس لهذه التبعية يصبح تابعا لغيره في كل شيء، يفعل فعله ويسير في أثره كأنه ظل له.

هذا وإن المتأمل فيما يجري في واقعنا يتأكد لديه أمر لم يعد خافيا على ذوي العقول النيرة، وهو أن اللغة الفرنسية في وطننا لم تعد لغة أجنبية وفق المفهوم الذي يعطي للغة الأجنبية حتى وإن تردد التصريح عنها بهذه الصفة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن واقع هذه اللغة – حسب مجريات الأمور التي نعيشها – لا تساير وضعها القانوني، فهي حتى وإن لم تكن لغة وطنية في المجال الرسمي، فإنها ستصبح – إذ استمر هذا الوضع – لغة وطنية أولى تسبق اللغة العربية والأمازيغية واللغات الأخرى.

هذا ما يستخلص من السياسة اللغوية المنفذة، ومن المكانة التي تحتلها هذه اللغة في المجال العملي وفي المحيط الذي يشهد ردة لغوية فاقت كل تصور. وما نراه في مواقف كثير من المسؤولين تجاه التعامل مع اللغة الفرنسية يؤكد هذا الاستنتاج، وقد تجلى هذا بوضوح في الاجتماع الذي رأسه الوزير الأول حين أشرف على اجتماع ضم المركزية النقابية وارباب العمل بهدف التمهيد لضبط اجتماع الثلاثية الذي سينعقد في الشهر القادم. في هذا الاجتماع استخدم المتكلمون الفرنسية ولم يكن بينهم عناصر أجنبية وهذا ما يلاحظ في اللقاءات والاجتماعات التي تتم داخل البلد ومع أبناء الوطن ومع المسؤولين الذين تجمعهم مصالح الوطن.

وما يجب قوله هنا ألا يخجل المتكلمون، من أنفسهم ومن مواقفهم هذه حين يجتمعون بالمواطنين، ويسمعون أفكارهم إلى أبناء الشعب، ولكنهم لا يحدثونهم بلغة الوطن. إن هذا يجعلنا ندعو السلطة العليا إلى تصحيح هذا الموقف الذي يسيء إلى سمعتنا وينقص من قيمة شخصيتنا.

وأود في ختام هذه الكلمة التي علقت فيها على سياسة التعامل مع اللغة العربية في نظامنا، أن أسجل كلمة للرئيس الراحل هواري بومدين ذكرها في خطابه الافتتاحي للندوة الوطنية الأولى للتعريب سنة 1975 عبر فيها عن المكانة التي يجب أن تعطيها الدولة للغة العربية في مجالات التعامل، قال فيها معبرا عن موقفه:

إن هناك نقطة يجب أن تكون واضحة وهي أنه لا مجال للمقارنة أو المفاضلة بين اللغة العربية وأية لغة أخرى، فرنسية كانت أو إنجليزية، لأن الفرنسة كانت وستبقى مثلما كانت في ظل الاستعمار لغة أجنبية لا لغة الجماهير الشعبية، وإن ما لم يتمكن المستعمر من تحقيقه أمس بالسلاح لن يتحقق اليوم بأي حال من الأحوال على أيدي أبناء الوطن”، وهذه الروح التي نريد أن نناضل من أجل بقائها وهذا ما جعلنا نحمل الدولة وهيئاتها هذه المسؤولية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!