الرأي

مهزلة المصحف الشريف في الجزائر!

قبل عقودٍ من اليوم، خرج العلاّمة المجدّد محمد الغزالي، رحمه الله، على المسلمين بكتابه الرائع: “معركة المصحف في العالم الإسلامي”، أراد من خلاله تجسير الهوّة بين المبادئ والقيم الأساسية التي تضمّنها الإسلام في تدبير وتنظيم أمور الدولة والمجتمع، وبين ما يواجههم من أزمات داخلية وخارجية، سعيًا لطرح حلول قد تُعيد لهم السيادة والحكم، أو على الأقل استئناف مسيرة الصراع والمنافسة مع تيارات تبسط نفوذها على الكون.
لكنّ المؤسف أن تتواصل انتكاسة المسلمين الأخلاقيّة إلى الدرك الأسفل من الانحطاط، فعوض أن يتمثّلوا القرآن في حياتهم، جعلوا منه مورد رزق مشبوه!
ذلك ما تنبئ به هذه الأيام سجالات وزارة الشؤون الدينية في بلادنا مع متعاملين في طباعة المصحف الشريف، إذ إنّ رائحة المال والتجارة تزكم الأنوف، وهي تفوح نتنةً من معركة تُدار باسم “الغيرة على كتاب الله”، و”تصحيح الأخطاء الواردة في مصاحف الجزائريين”!
وإلاّ كيف يمكن تفسير توقيت إثارة الموضوع مؤخرا عبر الصحافة؟ وبم نبرّر جملة القرارات العاجلة التي بادرت إليها مصالح الوصاية ردّا على ذلك، من دون أن ترفع اللبس أو تُجيب عن الهفوات المشار إليها؟
لقد كان الجزائريون ينتظرون من الوزارة المُؤتمَنة على شؤون دينهم أن توضّح موقفها مما نبّه إليه المدقق عبد المجيد رياش، بشأن عشرات الأخطاء في مصاحف موّلتها الدولة، لكنها بدلاً عن ذلك، قرّرت سحب سلسلة “مصحف الحاذق الصغير” من المساجد والمكتبات، علمًا أن الأخير يصدر عن مؤسسة يملكها عبد الحميد رياش ذاته، وقد سبق للرجل أن استوردها سنة 2013 بتصريح من الأزهر الشريف، ما يطرح علامات الاستفهام الكبرى: لماذا لم تتحدث الوزارة عن هذه الأخطاء طيلة خمس سنوات ماضية؟ وكيف استفاقت في هذا الوقت تحديدا، بعدما أقدم الناشر على فضح الكثير من الأخطاء التي تحملها مصاحف معتمَدة من طرفها؟ ما يضعنا أمام قضية غامضة، تلفّها روح الانتقام وتصفية الحسابات.
هذا لا يعني أننا نتّهم طرفًا بعينه أو نبرّئ آخر، لأنّ التساؤل قائمٌ أيضا حول المدعو عبد المجيد ريّاش، فقد تعامل مع الإعلام في البداية بصفته مصحّحا وضابطًا لآيات الذكر الحكيم، قبل أن يظهر كمتعامل تجاري في القطاع، ولديه صفقة مجمّدة منذ 2014 بقيمة 800 مليون سنتيم، الأمر الذي يضعه في موقع الخصم وليس الحَكم في مسألة تدقيق المصاحف.
لقد عرفت الجزائر منذ 15 عامًا تهافتًا محمومًا على سوق النشر، حتى صارت ساحة الثقافة والإبداع والبحث مرتعًا للفساد المالي تحت غطاء “تشجيع الكتاب والقراءة”، لكن أن يصل اللّهف حدّ المساس بحرمة القرآن الكريم، من خلال التستّر على الأخطاء لتمرير صفقات بأموال طائلة، أو التشهير كذلك بمسؤولي الوزارة للظفر بها، فتلك أمّ المصائب!
لم يعُد مقبولاً الآن التراشقُ عبر منابر الإعلام برسائل مشفرة من الطرفين، أو ممارسة لعبة الابتزاز والاسترضاء، على حساب مشاعر الجزائريين وأمْنهم الفكري والنفسي، بل على الوزارة، وبكل أمانة علميّة وإداريّة، المبادرة بتوضيح ما حصل للرأي العام حتى نكون على بيّنة، ويتحمّل كل مخطئ مسؤوليته كاملةً، لأنّ القرآن الكريم فوق كل المزايدات والمناقصات.

مقالات ذات صلة